أوبنهايمر.. خدعة هوليوودية
تكرر اسم العالم أوبنهايمر كثيراً هذه الأيام بسبب الزخم الذي تزامن وعرض فيلم سينمائي يتناول سيرته وقد لاقى إقبالاً كبيراً رغم طول مدة عرضه (180دقيقة). ويوليوس روبرت أوبنهايمر هو عالم فيزيائي أميركي، عُيِّن مديراً لمشروع لوس الاموس النووي الأميركي في عام 1943، أي أثناء الحرب العالمية الثانية، ولذا يلَقَّبُ بـ«أب القنبلة الذرية» لدوره المعروف في مشروع مانهاتن البحثي الذي تم خلاله تطوير السلاح النووي، وكان باكورة إنتاجه قنبلتين نوويتين أُلقيتا على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في السادس والتاسع من أغسطس عام 1945، نتج عنهما مقتل الآلاف وتدمير المدينتين وبُناهما التحتية بالكامل، فضلاً عن تأثر الآلاف من الناجين بالتسمم الإشعاعي والأمراض المرتبطة به طوال السنوات والعقود التالية للقصف النووي الأميركي.
النقد الفني والإبداعي للفيلم له متخصصون، وهو بلا شك فيلم رائع من حيث الإنتاج والضخامة والموسيقى التصويرية، لكن النقد الأخلاقي متاح للجميع حين تكون المغالطات التاريخية فكرة قائمة بحد ذاتها لتغيير الصورة الذهنية حول حدث تاريخي بشع، من خلال القول ضمناً بأنه كان لا بد من إنهاء الحرب العالمية بهاتين الكارثتين! لكن كيف أصبحت صناعة سلاح مدمر وقاتل مسوغاً منطقياً لإنهاء الحرب؟ وهل القصد هو صرف ذهنية المشاهد عن نتائج القنبلة النووية إلى فكرة الهدف من تصنيعها وترسيخه كمبرر؟
والسؤال الأكثر إلحاحاً هو: ما أهمية إلقاء القنبلتين على اليابان بعد هزيمة ألمانيا واستسلامها بموت هتلر، أي بعد النهاية الفعلية للحرب؟ قد يجد المشاهد للفيلم اختلافاً جوهرياً بين موقف الرئيس ترومان العنيف، وموقف أوبنهايمر الذي طلب تسليمَ أرض لوس الاموس للهنود الحمر بعد الانتهاء من صناعة القنبلة، لتغليب فكرة انتهاء السلاح بانتهاء الحرب وإضفاء طابع البراءة على السلاح المدمر! هنا وقفةٌ غايةٌ في الأهمية، فالرئيس يذهب ويأتي آخرُ مكانَه، لكن السلاح باقٍ ببقاء أميركا نفسها، وهو ما يستلزم هذا الضخ الهوليوودي المثير كذاكرة مؤرشفة في ذهن المشاهد حين يمر خلالها اسم «هيروشيما» أو «ناغازاكي».
وبالمناسبة، فإن الفيلم لم يعرض أي صور للدمار المريع الذي أحدثته القنبلتان، أي أن الجانب الآخر -والأهم- من هذه الكارثة غُيِّب تماماً في هذا السياق الدرامي الهوليوودي، وكذلك إحجام أميركا عن الاعتذار حتى يومنا هذا!
لفتني في الفيلم مشهد بالغ العمق، حين كان أوبنهايمر منهاراً بسبب انتحار صديقته، فكان رأي زوجته أنه شخص «يفعل الخطيئة ويريد من الجميع الشعور بالأسى نحوه ومؤازرته».
وهذا الرأي في الواقع هو تجسيد للفيلم برمته، خصوصاً في مشاهده التي تُظهِر وخز الضمير والندم الذي لم يشعر به عالِم بهذا العقل والدهاء أثناء صنع السلاح، لكنه شعر به بعد حملة التشويه والإقصاء التي تعرَّض لها داخل الدوائر العسكرية والحكومية وحتى الدوائر العلمية.
ومن خلال الأحداث يجد المشاهدُ نفسَه أمام شخصية تجسد ضحيةً للفساد السياسي ولعبةً غير أخلاقية للإغراق في العاطفة تجاه عالِم أصبح ضحية حين سُحبت رخصتُه العلمية في استجواب بالغ السذاجة، حاول المخرج عبره إضفاء هيبة وأهمية عليه، وهذا هو حجر الزاوية لتطويع مسار التاريخ نحو خدعة هوليوودية كي تصبح حقيقةً مسلَّماً بها، على الأقل في أذهان جيل اليوم الصاعد.. فهل نجحت الخدعة؟
*كاتبة سعودية