رأيت في ما يرى النائم أنّي أمشي في زقاق صغير، وفجأة دلفت إلى فضاء فسيح أثّثته الأبراج وبنايات ضخمة مهيبة، وأحيط بحدائق خضراء، وأزهار يخلب البصرَ تناسقُ ألوانها، ويَتضوّع منها أريجٌ قوي. وبدأت أتجوّل بين هذه المعالم مَشْدُوهاً، حتَّى وقع بصري على بناية أشبه بقصر منيف، وقد كتب على بابها: المكتبةُ الوطنيةُ.
غمرني سرور جارف، فالمكتبات روحُ المدن وملاكُها العقلي. ولجتُ، وسألت فتاة تتوسط البهو، أين المكان الذي أستأذن فيه للدخول؟ أجابتني بصوت رقيق: ليس على الكتب بوابّ تستأذنه يا سيّدي، أنت تحمل إذنك مذ ولجت هذا المكان، انظر اسم طابق المعرفة الذي تريد، وخذ المصعد، وادلف إلى الرفوف المرصّعة بجواهر الكتب. قلت لها: ومتى تقفل المكتبة؟ قالت باستغراب: وهل هناك وقت مخصّص للمطالعة حتى تقفل المكتبة أبوابها، نحن هنا نستلهم سيرة ابن رشد الذي لم يترك القراءة إلا ليلتين في حياته: ليلة وفاة والده، وليلة بنائه بأهله. المكتبة مُشرَعةُ الأبواب بياض الأسبوع، وتعمل ليل نهار، وهي لا تخلو من مُحبّي المعرفة وعشّاق الحكمة، خاصّة أنك تجد في طابق مُفِرد ما تشتهي من ألوان الأكل والشراب، وتجد أمكنة للرّاحة إذا شعرت بحاجة إلى استعادة النّشاط، بل هناك قاعة للمشي والرياضة، لأن سياستنا تؤمن أن ذكاء الألباب من ذكاء الأجسام. استغربت من حديثها الذي لا يكون إلا في الأحلام، وكأنّي نسيت أنّي لست سوى حالمٍ أعيش حلماً داخل حلم. شكرتها على احتفالها بفضولي، ثم اقتربت من اللائحة الطّويلة الذّهبية التي رُسِمَتْ فيها المعارف، ووقعت عيني مباشرة على طابق الفلسفة والعلوم الإنسانية، ثم قبل أن يرتد إليّ طرفي وجدت باب المصعد قد انفتح، وأغلق عند دخولي، وأنا أبحث عن اسم الطابق لأضغط على زرّه انفتح باب المصعد أمامي، فوجدتني أمام حضرة متسعة الاكناف مُحاطةٌ بكتب فلسفية لا نهاية لها، هنا لا تشعر بسير المصعد، وهنا قراءة الأفكار تغني عن لمسات الأنامل. جلست على الطّاولة أتملّى الكتب، فعبادة العين النّظرُ في الكتب، فكّرت أيّ الكتب أحتاج، برق في خاطري «كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس»، فجأة وجدت الكتاب منشورا أمامي بخط ديواني أخّاذ، وطيف أرسطو عن يميني، وطيف ابن رشد عن شمالي على طريقة «الميتافيزيقس»، فكدت أطير من مكاني جذلا، ثم بدأت أسمع حوار رائقا، بلغة عربية فصيحة، عن ظروف إبداع هذا النّص الأخلاقي الرّفيع، ودور سقراط وأفلاطون في ذلك، من المعلّم الأول، ثم حديث عن إشكالاته وأطروحته الكبرى وقضاياه الفرعية، وشكره لفلاسفة الإسلام لاعتنائهم به. ليأخذ الكلام الشّارح الأكبر، ويتحدث عن تلقّي الكتاب في فضاء التّفلسف الإسلامي منذ الكندي، و«مسكويه»، مرورا بالفارابي، وابن سينا، واستلهام الغزالي له في كتاب «ميزان العمل»، ثم اندهاشه من فُقدانه في نصّه العربي، وبقاياه على هامش نسخة حنين بن إسحاق في خزانة القرويين فقط، وكيف أنه وجد منهجه في التّربية الأخلاقية يرقى ب«المسلم باشتراك» إلى أن يصبح «مسلما بالحقيقة».
فكّرت أنّ الفلسفة ليس لها غير هذا القصد، وهو قصد الشّريعة الأولى، فتطابقت عندي الشريعة والأخلاق الفلسفية، وفرحت بالمكتبة التي أرجو ألا تظل طيفا من خيال.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية