ميلان كونديرا 1948
لم يحصل الأديب التشيكي «ميلان كونديرا» على جائزة نوبل، لكن شهرته تجاوزت عدداً كبيراً من الحائزين لها. فالأديب الذي عاش (94) عاماً ورحل صيف 2023، تُرجمت أعماله لأكثر من خمسين لغة، واشتهرت روايته «كائن لا تحتمل خِفّته» لدى ملايين القراء حول العالم.
يكاد يكون التاريخ الشخصي لكونديرا هو التاريخ السياسي لبلاده وعصره.. ومن المثير أن الرقم (8) يمثل حضوراً كبيراً في لحظات التحول الكبرى لوطنه. في عام 1918 انتهت الحرب العالمية الأولى، وتفكّكت على أثرها الإمبراطوريات الثلاث المهزومة: النمساوية المجرية والعثمانية والألمانية. ولمّا كان التشيك والسلوفاك قد خضعوا للإمبراطورية النمساوية المجرية على مدى (300) سنة، فقد وجدوا الفرصة سانحة للاستقلال والاتحاد، فتأسست تشيكوسلوفاكيا عام 1918.
المحطة الثانية في عام 1938، فقد كان من بين القوميات والأقاليم في دولة تشيكوسلوفاكيا القومية الألمانية في إقليم السوديت، ولقد أصرّ هتلر على اقتطاعهم من تشيكوسلوفاكيا وضمهم إلى ألمانيا، وهو ما حدث بالفعل عام 1938 بموجب اتفاق ميونيخ. المحطة الثالثة عام 1948، بعد ضمّ إقليم السوديت خضعت تشيكوسلوفاكيا لألمانيا النازية، حتى حررها السوفييت عام 1945.
وما إنْ بدأت الدولة تتنفّس الصعداء حتى كان الانقلاب الشيوعي عام 1948. أصبحت الدولة ماركسية بموجب الانقلاب، وظلت كذلك أكثر من (40) عاماً حتى اندلاع «الثورة المخملية» بقيادة الأديب الكبير فاتسلاف هافيل 1989، وفي عام 1993 انفصلت التشيك وسلوفاكيا بشكل ودّي. المحطة الرابعة عام 1968، حيث حاولت قطاعات واسعة من الشعب ودوائر المثقفين إسقاط الحكم الشيوعي، لكن الاتحاد السوفييتي أوقف هذه المظاهرات بالدبابات، والتي دخلت التاريخ تحت عنوان «ربيع براغ».
ولد «ميلان كونديرا» عام 1929، ليشهد في طفولته السيطرة النازية على بلاده، ثم في مطلع شبابه الانقلاب الشيوعي، وتحوّل بلاده إلى الماركسية. اعتنق ميلان كونديرا الماركسية، وكان سعيداً للغاية بانقلاب 1948، ولكنه سرعان ما اكتشف أن كل الوعود لم تكن سوى شعارات، وكل الخطب السياسية لم تكن سوى تخدير للناس من أجل تكريس السلطة واحتكار القوة. لقد شهدت البلاد درجة نمو جيدة في العقد الشيوعي الأول، كما شهدت صناعات ثقيلة مهمة، لكن غرب أوروبا كان يمضي بشكل أفضل على صعيد الاقتصاد والحرية. لم يواصل «ميلان كونديرا» رحلته الشيوعية، بل انقلب عليها، وأيّد حركة 1968 الإصلاحية، وفي نهاية المطاف، غادر إلى فرنسا.
كتب «كونديرا» روايته الشهيرة «غراميات مرحة» ليروي من خلالها حالة الإحباط الكبيرة التي واجهت جيله ممن كانوا يأملون في الانقلاب الشيوعي خيراً، ثم لم يجدوا شيئاً، وتلك الأحلام التي عاشها الناس، ثم اتضح أنها محض سراب، فبدلاً من تأسيس دولة حرّة قوية على غرار غرب أوروبا، تأسست جمهورية الخوف. كان ميلان كونديرا يؤمن بأن الثقافة والشعب يمكن أن يتعايشا، وليس صحيحاً أن الشعب والثقافة لا يلتقيان.. بل يلتقيان وينسجمان.
واليوم تواصل المكتبة الكبرى التي تحمل اسمه في مسقط رأسه بالتشيك رسالة الأديب الكبير.. فهي بذاتها تمثل ذلك النموذج للتعايش بين الثقافة والجماهير. إن الطرح الذي قدمه «كونديرا» بشأن رقي الشعوب، واستعدادها للثقافة الرفيعة هو طرح مهم للغاية. فلا وزن للثقافة إنْ بقيت أسيرة النخبة، ولا قيمة للملايين إذا ما تركوا فريسة لديكتاتورية الشهرة، وسطوة التريند.
*كاتب مصري