العرب وسؤال «الفلسفة أم العلم؟»
هل نحتاج اليوم في عالمنا العربي إلى الفيلسوف في بنائه النظري الإشكالي أم إلى العالم في التقنيات والطبيعيات التجريبية؟ سؤال لم ينفك يُطرح على نطاق واسع وبصفة متكررة، منذ بداية ما اصطلح على تسميته بعصر النهضة العربية الحديثة. لقد اعتبر رواد الفكر العربي الحديث إجمالاً أن النهوض بالأمة يكون عبر اللحاق بالغرب في علومه التقنية التي أهلته للصدارة والتقدم، ومن هنا كان التركيز على البناء الصناعي وترجمة العلوم الحديثة وتطوير المؤسسات البيروقراطية والعسكرية، وفق الأساليب والآليات التقنية الجديدة.
وكان محمد أركون قد لاحظ أن ما سماه «الأيديولوجيا النضالية» حالت دون الانفتاح الإيجابي على حركية الفكر الغربي، باعتبار أن المباحث والأفكار الإنسانية والاجتماعية هي من نمط «الغزو الثقافي» المرفوض، على عكس التقنيات والعلوم التجريبية التي هي محايدة وكونية.
ومع ذلك، لا محيد من الإقرار بأن مشروع «استيراد العلوم والتقنيات» لم ينجح إلا بصفة محدودة في العالم العربي، مما حدا بالكثيرين إلى التساؤل: لماذا نجحت النهضة اليابانية والنهضة الهندية في آسيا، ولم تنجح تجارب النهوض العربي التي سبقتها أو تزامنت معها؟ منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأ كتابٌ عربٌ عديدون يتحدثون عن ضرورة النقد الإبستمولوجي والمنهجي للفكر العربي، لا من منظور تقني أو تاريخي مجتمعي، بل من منطلق ما سُمي بنقد العقل نفسه، وهي العبارة التي استخدمها بصفة متزامنة محمد عابد الجابري ومحمد أركون، وإنْ كان العديد من المفكرين العرب ساروا في المسلك ذاته دون استعمال هذه المقولة.
ما نريد أن نبيّنه هو أن الانطباع ساد على نطاق واسع بضرورة الانفتاح على الفلسفة أفقاً للنهوض والتحديث، بدلاً من الاكتفاء بالخطاب العلموي التقني. وما تعنيه الفلسفة هنا يتلخص في ثلاث محددات نظرية كبرى: النقد المنهجي الجذري، والتنوير العقلاني، وتفكيك النص.. وهي الاتجاهات الرئيسية التي سلكها الفكر العربي المعاصر.
لقد تزامنت هذه التحولات النظرية مع شيوع الكتابات الابستمولوجية الجديدة في تصور العلم ونقده، مثل فكرة القطيعة والنفي لدى غاستون باشلار التي وجهت النظر إلى الطابع العقلاني البنائي في التجريبية العلمية بما يميزها عن التجربة العادية، وفكرة التفنيد لدى كارل بوبر التي نقدت بقوة مسلَّمة التحقق التجريبي، وأظهرت أن النظريات العلمية لا تُعنى بحقائق الظواهر ولا تكون صحيحة بل فقط ملائمة إجرائياً، وفكرة البرادايم لدى توماس كوهن في قراءته لتاريخ العلوم من منظور السياق النظري المحيط الذي لا ينحصر في الأدوات العلمية نفسها.
وهكذا لم يعد العلم التقني نموذجاً للنهوض، وإنما الفكر والعقلية النظرية الثاويان وراءه والمؤسسان له فلسفياً. فالعلم «لا يفكر» كما كان يقول الفيلسوف الأشهر مارتن هايدغر، والتصور التجريبي للطبيعة هو نفسه نتاج نظرية فلسفية صاغها فيلسوفُ الحداثة ديكارت في هدف «إيجاد العلم الذي يمكننا من السيطرة على الطبيعة والتحكم فيها».
ومن هنا غدا الهاجسُ المسيطر على الفكر العربي في السنوات الأخيرة هو كيف يمكن أن نُحدِث ثورةً فلسفيةً كبرى تؤسس لتقاليد علمية وتقنية ناجعة، إيماناً بأن التحديث العملي والمؤسسي هو نتاج التحول الفكري النظري، كما أكدت تجارب النهوض الناجحة في العالم.
بيد أن سؤالين حاسمين ظلا مطروحين: ما الجوانب الفلسفية التي يحتاجها الفكرُ العربي راهناً ضمن التراث الفلسفي المتشعب والمعقد؟ وما الطريق الأنجع للإبداع الفلسفي الذي هو شرط الثورة الفكرية المنشودة؟ بخصوص السؤال الأول، برز جدل متصاعد بين نمطين من التوجه الفلسفي: التفكير التنويري الحداثي الذي يعتبره البعضُ حاجة ضرورية للمجتمعات العربية للخروج من مأزق التخلف والانحطاط حتى ولو كان الأمر يتعلق بمرحلة تعود إلى ما قبل قرنين من التفكير الفلسفي، والنقد التفكيكي الذي يتعرّض للجذور والأصول والهويات ويفتح الأفق للقراءات والتجارب الجديدة حتى لو كان في عمقه الفلسفي في تعارض جذري مع قيم التقدم والتنوير.
أما سؤال الإبداع الفلسفي فقد ضاع بين مسلكين ذهب أحدهما إلى أنه لا يتجاوز الصياغات المفهومية الجديدة للمرجعيات التراثية السابقة، في حين اختزل الآخر هذا المسعى في الترجمة التوصيلية ونشر الأفكار السائدة. سألتُ في الآونة الأخيرة باحثاً فلسفياً عربياً مشهوراً بكتبه وتراجمه: هل نحن بحاجة إلى ديكارت وكانط أم إلى نيتشه وهايدغر؟ فرد علي بتهكم: نحتاج إلى الأولَين في بناء سياساتنا الثقافية وإلى الأخيرَين لنقدها.
*أكاديمي موريتاني