الفلسفة والتاريخ.. العروي مجدداً
في سن التسعين يُصدِر هذه الأيام المفكرُ المغربي عبد الله العروي كتابَه الجديد «الفلسفة والتاريخ» الذي يختلف جزئياً عن الكتاب الذي أصدر بالفرنسية تحت العنوان ذاته عام 2016. وكثيراً ما يعتبر العروي فيلسوفاً، وإن كان ينفي عن نفسه هذه الصفة ويؤكد أنه مؤرخ، حتى ولو كان يستند في عمله التاريخي إلى مفاهيم ونظريات فلسفية.
والواقع أن سلسلة المفاهيم التي خصصها للحرية والدولة والعقل والتاريخ والأيديولوجيا تدخل في الكتابة الفلسفية بأسمى معانيها. والمعروف أن المؤرخين المحترفين في المغرب يرون أن العروي ليس مؤرخاً بالمعنى التقليدي، حتى ولو كان ألَّف كتابَه المرجعيَّ الهامَّ حول تاريخ المغرب (العربي) وكَتبَ عن الجذور التاريخية للوطنية المغربية.
ولا شك في أن العلاقة بين الفلسفة والتاريخ لم تكن بديهيةً ولا طبيعية في الماضي، وإن تزامنت نشأةُ الفلسفة مع ظهور علم التاريخ في العصر اليوناني. لقد اعتبر افلاطون وآرسطو أن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً برهانياً دقيقاً، لأن مجالَه هو التغير والاحتمال، في حين أن المعرفةَ الصحيحة هي إدراك الكليات الثابتة.
لكن العلاقةَ تغيرت جذرياً منذ ما دعاه لوي التوسير «اكتشاف ماركس قارةَ التاريخ» (والأصح أن هيغل هو الذي اكتشف هذه القارة)، حيث أصبحت الفلسفةُ نمطاً من الانطولوجيا التاريخية، وغدا التاريخُ هو حقل الاستكشاف الفلسفي الأبرز. وبالعودة إلى العروي، نلمس هنا أنه منذ مقدمة كتابه الأخير يتعرض لهذا الإشكال، مستنتجاً أنه «ليس من السهل إذن التنصل من قبضة التاريخ، حتى عندما يقرر المرءُ نظرياً التقليلَ من تأثيره».
والحقيقة أن العروي ألّف كتابَه للرد ضمنياً على الذين انتقدوا نزعتَه «التاريخانية»، وفي مقدمتهم محمد عابد الجابري في كتابه «الخطاب العربي المعاصر». ومع أن جانبَ السيرة الذاتية الفكرية يطغى على الكتاب، فإن الغرض الأساسي منه هو توضيح هذه النزعة التاريخانية والدفاع عنها، في أصولها النظرية، وفي تطبيقاتها العملية المتمحورة حول أطروحة الشيخ والسياسي وداعية التقنية، والتي بلورها في كتابه الأول «الأيديولوجيا العربية المعاصرة».
ما يميز «التاريخانية» هو الوعي بالتحديد السياقي للحدث التاريخي، أي اعتباره إطاراً ضابطاً للتصورات والمواقف، ولا يمكن الخروج عنه بمطلقات عليا متعالية، تتجاوزه وتسبقه. وذلك ما عبّر عنه بالرجوع إلى تمييز بندتو كروتشه بين التاريخية التي تتعلق بظروف تشكل الظاهرة الحدثية والتاريخانية التي تعني أنه «لا يتصور أي مبدأ يساعد على ترتيب الوقائع وتوجيهها وجهة مقنعة إلا ما يبرره التاريخُ ذاتُه».
ووفق هذا الرأي، لا يمكن تأويل الخطابات والأفكار إلا في سياقها التاريخي الذي تنتمي إليه، وليست العبرة بمضامينها ذاتها. فالفقيه الإصلاحي (مثل محمد عبده وعلال الفاسي) يستخدم مقولاتِ التنوير الأوروبي والحداثةَ في إطارٍ سجالي جدلي فرضه الاحتكاكُ مع التاريخ لكنه يظل في انفصام مع حركية الزمن الحاضر. ونفس الحكم ينطبق على السياسي الليبرالي المتشبث بمثال الحرية لأغراض أيديولوجية، دون الوعي بالثمن المعرفي والاجتماعي الباهظ للتحول الليبرالي المنشود في السياق العربي مقارنةً بالتجربة الأوروبية الحديثة.
أما داعية التقنية فيسلك طريق البرغماتية النفعية في مشروع النهوض، لكنه لا يخرج من المأزق الأيديولوجي المتولد عن سطحية نظرته للاكتشاف العلمي والإبداع التقني واعتقاده الساذج بسهولة استيرادهما من لدن الدولة الوطنية الناشئة. وهكذا يخلص العروي إلى القول بأن «المثقف العربي إذا وعى الوضعَ الذي يعيش فيه يعي بالضرورة أن فكرَه أيديولوجيٌ بطبعه، أي أنه خاضع لحكم تاريخ شمولي، وأن فكره جدلي بالتعريف، وأن هذا الطابع الجدلي يوحي بأن لا أفق له سوى التاريخانية». والتاريخانية التي يقصدها هنا تقوم حسب عباراته على المنفعية الأخلاقية والفلسفة الوضعانية وترفض العودة للميتافيزيقا أو الانطولوجيا.
ومع أن العروي يتجنب في كتابه الحديثَ عن الكتابات الفلسفية العربية الحالية، والتي لا شك في أنه مطلع عليها، لكن من الواضح أنه يقصد الاتجاهات الظاهراتية والتأويلية والتفكيكية التي تستأثر بجانب وافر من اهتمام المشتغلين بالفلسفة في الساحة العربية الحالية. وقد تكون «العقدة الفلسفية» الواعية لدى العروي ناتجة عن إدراكه بأن الفكر الفلسفي في اشتغاله واهتمامه لا يمكن أن يتنصل من الميتافيزيقا ومن الإشكالات الوجودية الجوهرية التي هي خارج الزمنية التاريخية، ولو في أبعادها المفهومية والفكرية المحددة. وإذا كان فيلسوف الحداثة الأكبر إيمانويل كانط قد علَّمنا أن الفلسفةَ أصبحت تفكيراً إشكالياً في الحاضر، فهو نفسه الذي نبَّهنا إلى أن الميتافيزيقا ليست تفكيراً نظرياً مجرداً محضاً، بل هي الموجِّهاتُ الضابطةُ لنمط الوجود البشري في مرتكزاته الأخلاقية والمجتمعية.
*أكاديمي موريتاني