الهُوية العربية في عالم تسوده العولمة
يُشكِّل التقاطع بين الهُوية العربية والعولمة فسيفساء معقَّدة التكوين، ويمثل أحد أكبر التحولات الثقافية في النسيج الاجتماعي بالمنطقة في الوقت الراهن، وأصبح من بين الموضوعات المثيرة والجدليَّة محل الاهتمام في السنوات الأخيرة. ويشير واقع الأمر إلى أن الوطن العربي يشهد تغييرات جارفة مع تسارع وتيرة العولمة، مدفوعةً بالتوسع السريع للتكنولوجيا، وهيمنة الأسواق العالمية، وتغلغل وسائل الإعلام الرقمي ومنصاته.
ولم يعُد يخفى حجم التأثيرِ الكبير والعميق -الذي أصبحت تدفع به هذه المتغيرات- في الثقافة العربية واللغة والتقاليد، وباتَ يستوجب التوقف أمامها، وإعادة تقييم مآلات وانعكاسات كل ذلك على الهُوية العربية في السياق العالمي الجديد الذي تسوده ثقافة الأقوى والأكثر قدرةً على التأثير في الرأي العام. وهذا الاهتمام غير المسبوق بالهُوية العالمية الحديثة -وإن بدأ يظهر في عناوينه بمعايير الحقوق والحريات- محدَّد في حقيقته بأغراض سياسية ومصالح اقتصادية، ما يؤهل القوى الغربية لمواصلة السير بخُطى أكثر ثباتاً في اتجاهاتها المناقضة وغير المناسبة للشعوب العربية، وستُشكّل في مجملها عائقاً يحول دون وصول هذه الشعوب إلى مستويات التمكُّن الحضاري الممثلة في التطور الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي، وذلك ينبئ باستمرار التراجع الاقتصادي وعدم الاستقرار في المنطقة لعصور مقبلة ممتدَّة، ويُمثِّل خطراً لا يجوز التغافل عنه، ولا إهمال احتمالاته.
تأثير العولمة في الهُوية العربية
ما تدفع به العولمة هو أعرافها وقِيمها العالمية، التي تمثل تحديات واسعة للوطن العربي، بصفتها عوامل ضاغطة باتجاه إعادة تشكيل ثقافته وتقاليده وقِيمه. ونجد أن موجات التأثير الغربي التي تُروَّج عبر منصات الإعلام والتكنولوجيا قد أثقلت من وطأة الضغوط لتغيير الهُوية العربية وتنويعها، وفرضت تساؤلات عن آلية التعامل، ومدى التغيير المطلوب، الذي أصبح يتعارض مع الموروث الثقافي والديني، فمعَ التحول الرقمي للمجتمعات أصبح الوطن العربي أمام طوفان من التأثيرات العالمية، وأصبح الشباب العرب أكثر عرضةً لأعراف وقِيم ثقافية متنوعة، سمحت لهم بالتفاعل مع مجتمع عالمي أوسع، وعرَّضتهم لأفكار وثقافات جديدة تتحدَّى الأعراف التقليدية، وشجَّعتهم على بناء نظرة أكثر عالمية، وتتجاوز حدود الموروث العربي، وتلك -بلا أدنى شك- عملية تغييرية ممنهَجَة ومستمرة ومتطورة، وتمثل إحدى صور غَسْل الأدمغة البطيء لإنتاج ثقافة أخرى موازية تناقض مفاهيم المواطنة، وأعراف المجتمع العربي وقِيمه.
تحديات العولمة والتكنولوجيا
تنبع التحديات الحديثة للهُوية العربية، في المقام الأول، من التحولات الثقافية المرسومة من القوى الغربية، التي غدت تجرُّها عربات الإعلام الجديدة، وقاطرات المعلومات الرقمية، لتضع الكيان العربي أمام مخاطر صدامية مع الموروث الذي لطالما كان خط الدفاع الأول في المحافظة على الأمن القومي، وترسيخ مبادئ الولاء والانتماء والوطنية. ففي العصر الذي أصبح فيه العالم أشبه بقرية صغيرة نجد أن منصات التواصل الاجتماعي تؤدي دوراً حاسماً في تشكيل الهُويات والثقافات، ذلك أن هذه المنصات، مثل فيسبوك وإنستجرام وتويتر وسناب شات، لم تعُد قنوات للمشاركة في الأحداث والقصص الشخصية أو الأفكار فحسب، بل أصبحت وسائل مؤثرة لنشر الأعراف والأيديولوجيات الثقافية، كما أن ما تعرضه منصات البث التلفزيوني مثل «نتفليكس» من محتوًى عربي وغيره يبين التوجه العالمي إلى تقديم مضامين تعمل على تغيير القيم الأخلاقية، وتقديم القدوة والأنماط السلوكية في المجتمعات. ويبيِّن ذلك ضرورة إيجاد توازن حذِر بين احتضان التقدم الاجتماعي والتكنولوجي، والحفاظ على القيم الثقافية الموروثة، إلى جانب اتخاذ خطوات استباقية، لحماية الهُوية العربية من التآكل في مواجهة هذه القوى العالمية التي تدعو إلى التعددية الثقافية، والاعتراف بقيمها التي تروِّج المساواة بين الانحراف والاستقامة، وتقبل الثقافات المناقضة لثقافتنا وأخلاقنا.
الحفاظ على الهُوية العربية
من الواضح أن العالم العربي يقف أمام طريق محفوفة بالمنزلقات في وقت تكافح فيه الدول للاستجابة بفاعليَّة لمتطلبات العصر الرقمي، وتحقيق أولويات أجنداتها التنموية، وهذه المنزلقات تشمل تحديات الوصاية والتدخل في شؤون السيادة الوطنية، وتقبل الخيارات الأحادية الجانب، ووجوب مراعاة متطلبات الامتثال الدولي، وأصبحت في مجملها تُمثّل معضلات تنبغي مواجهتها مع انتشار الثقافة الغربية الكلية، وتوظيف قوة الإعلام والثقافة بصفتها قوةً ناعمةً للتحكُّم في تشكيل الأعراف المجتمعية، وتحقيق التأثير المنشود.
الطريق إلى الأمام
علينا أن نحدِّد خططنا ومناهجنا الموجَّهة لحماية قِيمنا وهُويتنا، إذ نعتقد أن المواجهة يجب أن تكون صنو العمل ومثله، وهو ما يوجِب علينا أن نقرِّر -بصفتنا وطناً عربيًّا واعياً ومدركاً أهميةَ الانخراط في المواجهة- استخدام الأدوات والآليات نفسها التي نُواجَه بها اليوم، وذلك عن طريق الاستثمار في إنشاء المنابر والمنصات الإعلامية، والمؤسسات الثقافية الإقليمية والعالمية، وصناعة البرمجيات والتطبيقات الموجَّهة لترسيخ القيم والثقافة العربية. ويمكن أن تمثل هذه الآليات مراكز بناء ثقافية إيجابية فعَّالة في مواجهة الأثر المهيمن للعولمة الإعلامية الجديدة، ويمكن معها إعادة اتجاه بوصلة الإعلام العربي للتركيز على قضايا الثقافة الإسلامية والعربية، والتقاليد التي تسهم في البناء الصحي للأسرة، وتعزز التكوين والانتماء الوطني، وتعمل بمنزلة ثقل موازن لتأثير الثقافات الغربية. كما أنه ينبغي بناء أسس المشاركة الشعبية الواسعة بما يحافظ على الهُوية العربية بصفتها العنصر الأكثر أهميةً للاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وذلك يستوجب تطوير قطاعات محورية مثل التعليم، والإعلام، سواء الرسمي والخاص والموازي الجماهيري، لتعزيز الارتباط بالجذور الثقافية، بجانب العمل على تحقيق العدالة في توزيع المسؤوليات والأدوار بين المؤسسات الوطنية، وتشجيع التعاضد الوطني بين الطبقات الاجتماعية الوطنية الإنتاجية، وهي كلها خطوات حاسمة نحو تعزيز الهُوية العربية في الساحتين المحلية والعالمية.
وجدير بالذكر هنا تجارب اتخذتها دول تتحدى القطبية الأحادية للنظام الدولي مثل الصين، التي انتبهت باكراً لخطر مواقع التواصل الاجتماعي، فقررت حجبها، وقدمت بدائل محلية تستطيع التحكم في إيقاعها وتوجهاتها، واستخدمت الأداة والسلاح أنفسهما، مثل تطبيق «تيك توك»، في مواجهة الغرب والمجتمعات غير الصينية، لتُعيد استخدام السلاح بشكل عكسي، وهو التطبيق نفسه الذي يعرض محتوًى مغايراً في المجتمع المحلي بالداخل الصيني، يفيد الشباب وينفعهم، بما يتضمَّنه من علوم وأفكار ومعارف، وهو ما يؤكد أهمية الاستثمار في منصات الإعلام والتواصل الرقمية بصفتها إحدى أدوات المواجهة المحتمَلة.
مفترق طرق
لا شكَّ في أن الهُوية العربية تجد نفسها عند مفترق طرق حاسم في العصر الحديث، وتقف أمام اختبار صعب للحفاظ على تراثها الغني وتقاليدها، والتكيُّف في الوقت نفسه مع المتطلبات العالمية المتغيرة بسرعة، والتحديات الكبيرة المطروحة. وبينما نتنقل في هذا المشهد المعقَّد يصبح التخطيط الاستراتيجي أمراً بالغ الأهمية، وخاصة التخطيط لترسيخ القيم الثقافية والهُوية العربية للأجيال المقبلة، وتعزيزها في العصر الرقمي، فعلى الرغم من التحديات التي تجلبها العولمة والتكنولوجيات المتطورة، فإنها تجلب أدوات مبتكرة للتواصل والتعبير الثقافي أيضاً، مثل المنصات الإعلامية والثقافية التي يمكن معها توجيه الجهود نحو قضايا الثقافة والتقاليد العربية التي تغذي هُويتنا الوطنية.
إن الهُوية العربية هي أكثر من مجرد تاريخ غني ولغة مشتركة، وستبقى من المسؤوليات العامة التي تقع على عاتق الدول العربية والمنظمات العربية لضمان تناغمها مع التطور العالمي بطريقة تحترم التراث، وتضمن مستقبله. وبينما نمضي قُدُماً من الضروري أن نتذكر أن أدوات الحلول يجب أن تتوافق مع النتائج المرجوة، وهذه رحلة معقدة ودقيقة، وليست معركة تُربِح أو تُخسِر. ويجب أن تكون استراتيجياتنا مدروسة وواقعية، وأن تركز على تعزيز هُوية عربية صلبة ومتينة للأجيال المقبلة، وتوفير الحماية المناسبة لها، وأن تضمن لمجتمعاتنا الأمن والاستقرار الاجتماعي والثقافي.
الأستاذ الدكتور/ علي الخوري.
*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربية،