المواطَنة.. حاضنُ الهويات
لا يتحسس البلجيكيون، بشتى أصولهم ومنابتهم، مطلقاً من مقولة إن دولتهم «مصطنعة»، فهي كذلك، وهم فخورون بأنها استمرت وستستمر نموذجاً لترسيخ مفهوم الدولة بكل عناصر المواطَنة فيها. في بلجيكا التي هاجرت إليها قبل11 سنة، تعرفتُ إلى الصحفي التلفزيوني والكاتب البلجيكي العربي الفلسطيني المولود في دبي، مجد خليفة. وخليفة، ليس معروفاً في العالم العربي، لكنه مشهور بشكل جيد في بلجيكا، تحديداً في الوسط الهولندي داخل بلجيكا، كما أنه معروف في هولندا أيضاً، فهو منتج أخبار في القناة الأولى الناطقة بالهولندية، وهو كذلك مخرج لأفلام سينمائية بالهولندية، كما أنه مؤلف لكتاب باللغة الهولندية كان من أكثر الكتب مبيعاً عام 2018، وعنوانه «ولدت من جديد»، وفيه تلخيص مكثف لمعنى المواطنة عبر سيرة الكاتب الذاتية.
مجد أصغر مني بعشر سنوات، لكنه نموذجي الحقيقي في الاندماج والمواطنة والقيمة الثقافية للأصول والمنابت. كلما كان هناك نشاط عربي أو فلسطيني مسرحي أو ثقافي أو فني، يتصل بي «مجد» ويدفعني دفعاً للحضور برفقته وبمعيته، ولا أخفي أنني أستمتع فعلاً بتلك النشاطات والفعاليات.
لكن مجد الذي يتقن اللغة الهولندية (الصعبة فعلاً) حد تأليف كتابه بها، وهو يتقن الفرنسية والإنجليزية، لا يهادن مطلقاً في مواضيعه الصحفية بمفهوم المواطنة، وخلال عمله في تقاريره المتلفزة عن قضايا اللجوء والمهاجرين، يركز دوماً على تلك النقطة، ويبرزها بوصفها قاعدة مقدسة لا يجادل فيها.
وفي سياق الأصدقاء ذاته، وعلى ضفاف مفهوم المواطنة، صديقي لي من عرب إسرائيل يعيش في عكا، تهاتفنا قبل سنوات، وحدثني ضمن ما حدثني به عن ليلة رأس السنة التي قضاها برفقة أصدقاء من إسرائيل، تحديداً في «إعبلين»، وداخل بيت مُضيّفهم وهو عالِم عربي إسرائيلي.
وفي حديثه استوقفتني عبارة «عالِم» فسألته عنه، فأخبرني أنه الدكتور «فلان» الذي يشغل موقعاً متقدماً في معهد «التخنيون»، وهو عربي فلسطيني إسرائيلي..
حديث صديقي عن واقع حال نجهله، وتخفيه سواتر ترابية من العنف والدم، ذكرني بمسلسل حاز شهرة على منصة «نتفليكس»، ومتابعوه من العرب هم الأكثر نسبة، وهو مسلسل «فوضى» الإسرائيلي. من بين ما كان يشغل تفكيري في المسلسل، هو نجومية أبطاله الإسرائيليين العرب، خصوصاً الممثل الشاب شادي مرعي الذي أدى شخصية «وليد العبد»، وجسدها بأداء أسطوري خلق منه نجماً في إسرائيل.
كان سؤالي حينها (ووجهته لذاتي مع كثير من التفكير): هل كان لشاب مثله أن يجد تلك الفرصة وهذا التقدير لو عاش في الجانب الآخر من الخط الحدودي؟ وفي سياق الهويات، والمواطنة والدولة، أنا أردني، والدي - رحمه الله- من حوران، لكني من مواليد مدينة الزرقاء «مختلطة الهويات»، أمي قوقازية من القوقاز المهاجرين إلى الأردن بدايات القرن العشرين.
زوجتي والدها سوري من حلب، كان يتحدث التركية مع والدته (جدة زوجتي)، ووالدة زوجتي مجرية، كما أن زوجتي مواليد بودابست وهي مجرية الجنسية وبلجيكية أيضاً. ابنتنا الوحيدة بترا، هي مزيج كل تلك الهويات، لكنها مواليد مدينة «خنت» البلجيكية، وابنتي تتحدث الهولندية بذات طلاقتها باللغة العربية، وكذلك الهنجارية، وتتقن الإنجليزية.
أنظر إليها، فأتعلم من تلك الصغيرة، التي تنمو وتكبر أمامي، دروساً إضافية في مفاهيم المواطنة والهويات ومعنى الدولة.
ومما تعلمته ضمناً، أن الهويات قاتلة إن لم تحتويها المواطَنة، والمواطَنة لا تتوافر من دون دولة حقيقية مكتملة المؤسسات.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا