تصفير المشكلات السياسية
من أحلام عقلاء البشر أن يعم السلام ويعود الوئام بين الحكومات والشعوب في العالم. وكنت من صغري معجباً بقول أبي الطيب (ومراد النفوس أصغر من أن نتعادى فيه وأن نتفانى). وما يتصارع الناس فيه وحوله من مصالح أو نفوذ سرعان ما يصير هباء، وأذكر القول الشهير (من حماقات الرجال أنهم يسعون للموت في ساحات القتال، ولو أنهم انتظروا لجاءهم الموت وهم على أسرتهم). لكن أبا الطيب يتدارك رؤيته حين يقول (غير أن الفتى يلاقي المنايا كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا)، وهو يكشف السر الأهم وراء الصراعات حين يظهر الطغيان على الآخر، فلا يطيق الشعور بالهوان، وهذا ما يجعله يفضل الموت الكريم على حياة الذل والاستعباد، لكن أكثر صراعات البشر تدور حول مشكلات يمكن حلها بالحوار والتفاهم والتعالي عن الصغائر والتسامح، وهذا ما دعانا إليه ربنا بقوله (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ومن المفارقات أن جل الحروب تبدأ بالقتل والتدمير، وتنتهي بالحوار والتفاهم وبالتنازلات، بل إن صداقات جادة تعود بين الحكومات والشعوب بعد أن يدقوا بينهم عطر منشم كما تقول العرب، وسرعان ما يتحول ذاك العطر الدموي إلى طيب المودة.
وبوسعنا أن نتأمل العلاقات الوطيدة بين الولايات المتحدة واليابان رغم إحياء اليابانيين ذكريات أليمة في ناغازاكي وهيروشيما، والصداقة الوطيدة بين اليهود والألمان رغم الهولوكست، وسعي الجزائر وتونس وسوريا ولبنان إلى صداقة متينة مع فرنسا بعد الانتداب والاحتلال، وكذلك سعي مصر والهند وكثير من الدول التي احتلها الإنجليز إلى صداقة مع بريطانيا، والتاريخ يحدثنا عن حروب مفجعة بين الأوروبيين أنفسهم، وهم اليوم في الاتحاد الأوروبي يتسامون عن تلك الذكريات المريرة.
وفي القرن الماضي شغلت البشرية بحربين عالميتين مدمرتين، وكان من تداعياتهما حدوث حرب باردة بين معسكرين شرقي وغربي، وقد انتصر الغربي بالسقوط الحر المدوي للاتحاد السوفييتي، لكن روسيا نهضت في مطلع هذا القرن لتستعيد مكانتها في العالم، واهتمت باستعادة بناء جيشها، وضربت بيد قوية على طاولة الأمم لتقول (لقد عدنا) وبدأت باستعادة حضورها في الشيشان، ونفوذها في دول الاتحاد السوفييتي التي خرجت عن سلطة الكرملين، واحتلت روسيا شبه جزيرة القرم، وهي اليوم تحارب أوكرانيا وتضم إليها مناطق يسكن فيها الروس، ويمتد الصراع إلى دول مجاورة تخشى أن تصل نيران الحرب إليها.
وتقع تركيا في موقف حرج بين نارين، أخطرهما روسيا التي خاضت الدولة العثمانية معها حروباً قاسية عبر تاريخ مريع، وأوشكت علاقتها بها أن تتصاعد في توتر بعد حادثة سقوط طائرة عسكرية روسية في عام 2015 وبين الولايات المتحدة التي تأرجحت علاقتها بتركيا في عهدي ترامب وبايدن. وقد تمكنت تركيا من سياسة احتواء بارعة بين روسيا وأوكرانيا وتحولت إلى وسيط قادر على الموازنة بين مصالح الطرفين ومصالح أوروبا ولاسيما في قضايا الغاز والقمح، وكان القادة العرب قد حققوا مثل هذا التوازن فقد تدخلوا في مساع نحو السلام. ونذكر الزيارة المهمة التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، إلى موسكو ولقائه مع بوتين في أكتوبر الماضي 2022 وتأكيد مسعاه إلى حلول سلمية وحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين، وقد جسد العرب موقف الاعتدال في حضور زيلنسكي مؤتمر القمة العربية في جدة ليشرح وجهة نظره، وبدا هذا الحياد العربي إيجابياً في دعوة إلى حل سياسي، وقد تقبل الرئيس الروسي هذا الموقف العربي وبعث رسالة ودية إلى القمة في جدة وكذلك فعل الرئيس الصيني.
وكانت دولة الإمارات سباقة في تنفيذ سياسة التفاهم الدولي لحل المشكلات الراهنة، وهنا نذكر الزيارة التي قام بها سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، نائب حاكم أبوظبي، ومستشار الأمن الوطني، إلى إيران، واستعادة العلاقات بقوة مع تركيا، وفي السياق ذاته كانت المملكة العربية السعودية تدعو إلى سياسة حسن الجوار مع إيران وقد نجحت الوساطة الصينية في استعادة التعاون الدبلوماسي وإطفاء نيران التوتر، واستعاد العرب علاقاتهم الدبلوماسية مع الحكومة السورية وهم مستمرون في دعوتهم إلى الحل السياسي، والقضية السورية ليست بين الدول العربية وسوريا، إنها قضية بين الحكومة السورية وشعبها المتناثر في دول اللجوء، وهناك خريطة طريق واضحة لهذا الحل، من أجل تصفير المشكلات واستعادة الاستقرار في المنطقة سالكاً وسهلاً.
*وزير الثقافة السوري السابق