حياد المؤسسات الإنسانية يصنع عالماً أفضل
التحيز ليس خياراً متاحاً لعمال الإغاثة الإنسانية. فالقول بأنه إما أن تكون معنا أو ضدنا، قسّم البشر في معسكرات متعارضة لعدة قرون. ويُقال إن شيشرون قال هذه الكلمات ليوليوس قيصر. وما زال القادة السياسيون في جميع أنحاء العالم يستخدمونها لحشد الدعم. ومع تصاعد توترات القوى العظمى واحتدام الحروب، قد تبدو فكرة الحياد هذه الأيام لكثيرين من الناس قد عفا عليها الزمن في أحسن الأحوال وغير أخلاقية في أسوأ الأحوال. لكن يجب علينا إفساح المجال لأن نبقى محايدين للحفاظ على إنسانيتنا. ويوجد اليوم عدد كبير جداً من الأماكن التي يتعرض فيها العمل الإنساني المحايد لتهديد خطير. والانحياز إلى جانب في الصراع هو دافع طبيعي. وهو أيضاً شيء لا تستطيع تبنيه منظمتا، اللجنة الدولية للصليب الأحمر. فإذا فعلنا ذلك، فلن يكون من الممكن تقديم المساعدة الإنسانية للناس عبر أكثر مسارح الصراع المسلح إثارة للجدل في العالم.
والمشكلة هي أن المدنيين المتضررين من صراع مسلح - سواء في أوكرانيا أو السودان أو سوريا - لا يتلقون دائماً المساعدة التي يستحقونها. والأسوأ من ذلك، أنهم يتعرضون للإصابة والقتل في تبادل إطلاق النار أو عندما ينتهك المقاتلون قوانين الحرب.
ودفعت أهوال الحرب العالمية الثانية جميع دول العالم إلى الموافقة على تدابير حماية في زمن الحرب نصت عليها اتفاقيات جنيف. وبناء على قواعد الحرب التي تعود إلى قرون، فإنهم يسعون إلى تقليل المعاناة الإنسانية من خلال حظر، على سبيل المثال، اغتصاب أسرى الحرب أو تعذيبهم أو إعدامهم. وتوجد قوانين الحرب لتقييد أسوأ غرائز البشر لأن هذه القيود أمام الوحشية هي وسيلة للحفاظ على مسارات السلام. واختصت اتفاقيات جنيف محكمة العدل الدولية تحديداً بتنفيذ هذه المهام في زمن الحرب. لكن في حالة عدم التزام الأطراف بهذه القوانين، كانت إمكانية وصول فرقنا إلى المدنيين المحتاجين وأسرى الحرب أقل مما ينبغي.
ووجود هيئة محايدة للمساعدات الإنسانية هي سمة مميزة للنظام الدولي، ومن دونها يصبح النظام بأكمله أضعف. والقيم الأساسية المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني، متفق عليها عالمياً منذ نحو 75 عاماً، وتحمي المدنيين والجنود وأسرى الحرب منذاك. ومازالت تقدم هذه الحماية اليوم. فما هي قيمة هيئة محايدة وغير متحيزة تكرس نفسها لمساعدة ضحايا الحرب؟ في النزاع المسلح بين روسيا وأوكرانيا، زارت محكمة العدل الدولية مئات من أسرى الحرب من الجانبين. صحيح أننا لم نقم بزيارة الجميع، لكننا نسعى جاهدين لنكون قادرين على القيام بذلك. وهذا العمل ممكن فقط بسبب إخلاصنا والتزامنا بالحياد، وبالبحث عن حوار بناء مع جميع الأطراف يمكنه أن يحسن وضع ضحايا الصراعات المسلحة. وهذا يتطلب بناء الثقة مع مرور الوقت. إنه يفيد السجناء الأفراد وعائلاتهم على كلا الجانبين.
وسمح لنا نفس النهج بمواصلة عملياتنا في إثيوبيا أثناء الصراع في تيجراي، حيث قمنا بإيصال العقاقير الى المراكز الصحية المفتقرة لها. وفي سوريا، هذا يعني أننا تمكنا من توفير الغذاء والعقاقير للجماعات التي كانت في أمس الحاجة إليها لأكثر من عقد. وفي أبريل، نقلت فرقنا نحو ألف محتجز من كل أطراف النزاع اليمني إلى أوطانهم. ويسمح لنا حيادنا بزيارة المعتقلين في خليج جوانتانامو، وقد سمح لنا بمراقبة صحة طيار أميركي تم أسره في الصومال في عام 1993 في الحادث المعروف باسم "إسقاط بلاك هوك". ويُنظر إلينا على أننا غير متحيزين تجاه الأعداء في النزاع، مما يسمح لنا بالعمل بأمان وفعالية أكبر في الأراضي التي يسيطرون عليها. ومن خلال التفكير المستمر في الطرق التي قد تؤثر بها الكلمات والأفعال على تصورات الحياد، تسعى محكمة العدل الدولية إلى تجنب إعطاء المتحاربين ذريعة لرفض عملنا أو منعه أو إعاقته.
وقد يشمل هذا العمل التنسيق مع الأطراف للتفاوض على ممر آمن للمدنيين، كما فعلنا العام الماضي في أوكرانيا، وهو إجراء يتطلب دائماً تعاون كلا الجانبين. ويشمل تسهيل تبادل رفات المقاتلين، كما فعلنا منذ فترة طويلة في أفغانستان. كما يسمح لنا بمشاركة الأخبار مع أفراد الأسر الذين انقطعت عنهم أخبار ذويهم بسبب العنف كما نفعل في أماكن مثل جنوب السودان وكولومبيا. وغالباً ما يُساء فهم حيادنا. لكنه وسيلة لتقديم المساعدة على أساس الاحتياجات؛ ولا يعني ذلك التهاون في مواجهة المعاناة بسبب جرائم الحرب وغيرها من انتهاكات القانون. ونشارك وجهات نظرنا حول هذه الانتهاكات وآثارها الضارة في حوار مباشر وسري مع السلطات. وتُظهر تجربتنا أن هذا النهج يؤدي على الأرجح إلى نتيجة إيجابية في نهاية المطاف مع الحفاظ على الوصول إلى المحتاجين. ولا يحتاج الجميع إلى التحلي بالحياد. لكن يتعين على الدول احترام مساحة الحياد الإنساني. وحين ينحاز العالم، فإننا نقف إلى جانب الإنسانية، وبهذا يصبح العالم مكانا أفضل.
ميريانا سبوليريك
رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»