الليبرالية وحيوية التعريف المتعدد
لابد من الاعتراف بأن معنى «الليبرالية» صَحبَه في الترجمة العربية على المستويين اللغوي الصرف عبر الترجمة، والفكري المحض عبر التوصيف، سجالاتٌ كبيرة، إنه مفهوم بقدر ماهو سهل إلا أنه متشعب.
والمفهوم لا يتحمّل جور أتباعه، وأتباع المفهوم لا يُمتدحون بإيجابياته، فكل اتباع هو ممارسة تأويلية لنمط فهم محدد.
وفي سبيل رصد نموّ مفهوم الليبرالية عربياً، نذهب إلى الفصل الثالث من كتاب «مفهوم الحرية» لعبدالله العروي، والذي عنونه بـ «الحرية الليبرالية». يربط في فاتحة الفصل بين الحرية والليبرالية، فـ «كلما تكلمنا عن الحرية، اضطررنا إلى اتخاذ موقف من المنظومة الفكرية التي تحمل في عنوانها كلمة حرية، أي الليبرالية». يضيف العروي: «المفكرون العرب في العصر الحديث قد تلقوا مفهوم الحرية من خلال تعرفهم على الليبرالية».
وبهذا نكتشف أن إحراج مفهوم الليبرالية يكمن في وجوده داخل مفهوم الحرية العام. مفهوم الحرية بقي ثابتاً واضحاً، أما الليبرالية فمفهوم يترحّل تبعاً لتداخلاته مع مفاهيم أخرى، ثمة فروقات كثيرة لتقبل المفهوم بين الغرب والعرب والآسيويين.
والمتحدثون عن الليبرالية كُثر، ما بين قادحٍ ومادح، على اختلاف التناولات التي تجترح المجالين بشكلٍ سطحي.
أستعيد هنا مقولات لعبدالله العروي ضد معارضات ارتكاسية ضد المفهوم، يقول:«يجب على المتحدث أن يوضح منذ البداية أي نوع من أنواع الليبرالية يعني عندما يقول: لقد تأثر المفكرون العرب بالفكر الليبرالي. هل يعني: ليبرالية بعض فلاسفة عصر النهضة التي لم تكن سوى وجه من أوجه الإنسية الأوروبية، أم ليبرالية القرن الـ18 التي كانت سلاحاً موجهاً ضد الإقطاع والحكم المطلق والتي جمعت في ذاتها بين ديمقراطية روسو ونخبوية فولتير واستبدادية هوبز، أم ليبرالية بيرك وتوكفيل في بداية القرن الـ19؟».
تنقّل العرب استقبالاً لمفهوم الليبرالية تبعاً للثقافات التي تنتظّمه، كانت مجمل أدوات الاستقبال تصب في خانة محاولاتٍ حثيثة لإثبات وجود ثقافة عربية وإسلامية لا ترفض المفهوم ذاته، وإنما تسعى لصهر المفهوم في خانة الاستيعاب.
جون ستيوارت ميل في كتابه «في الحرية» كتب: «إن المجتمع الإسلامي غير ليبرالي ليس فقط في نظام الحكم الذي كان فردياً واستبدادياً، بل في النظام الاجتماعي العام المؤسس على الإجماع في الرأي وعلى تحريم النقد والنقاش المفتوح». ويمدد ميل نقده هذا على المجتمعات السابقة للعهد الحديث في أوروبا. ويعتبر بكل وضوح – كما يقول العروي – أن «تلك المجتمعات – بإهمالها – ما زال الجنس الإنساني فيها دون سن الرشد».
لقد تأثر جيلٌ كبير من المفكرين العرب بالمنظومة الليبرالية على ما نشاهده في كتابات محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي ولطفي السيد وطه حسين وحسين باشا هيكل والطاهر حداد. لم تكن الليبرالية يوماً مجرد «تعريفٍ» فقير على طريقة الفقهاء باللغة والاصطلاح، وإنما جاء المفهوم بوصفه فضاءً يحمل معه جملةً من المعاني، بما يعبر عن الواقع على المستويات كافة.
*كاتب سعودي