الاستهلاك في ثيابه البيضاء
دائماً ما تتعاطى الصورة الذهنية لمفهوم الاستهلاك مع الجانب السلبي للمفهوم، في حين أن الاستهلاك هو واحد من الأنشطة التي تعمل على تلبية احتياجات الإنسان الأساسية سواء المادية أو اللامادية. هذا التعاطي فخ يجعلنا نقف على مسافة المدافع والمتخوف من فكرة الاستهلاك كسلوك بشري، في حين أنه مثل كل السلوكيات الإنسانية محايدٌ في حد ذاته، ولكن استخدام الإنسان له هو من يحوله إما إلى أداة بناء أو أداة هدم.
ونظراً لأن مفهوم الاستهلاك مرتبط باستخدام السلعة المستهلكة، وهذا الاستخدام يؤدي حتماً إلى فناء تلك السلعة، فإن هذا الارتباط يؤثر في وقع كلمة الاستهلاك على ذهنية المتلقي، ولكن ماذا عن الاستهلاك الثقافي تحديداً؟ الاستهلاك الثقافي يشير إلى الطريقة التي يستهلك بها الفرد أو المجتمع منتجات الثقافة والفنون والإعلام والترفيه والهوايات ومختلف المنتجات الثقافية الأخرى المتاحة لهم. يمكن أن يشمل الاستهلاك الثقافي شراء الكتب والأفلام والموسيقى واللوحات الفنية، وحضور الحفلات والمعارض الفنية، وغيرها من الفعاليات الثقافية. كما يشمل الاستهلاك الثقافي تفضيل أنواع معينة من الموسيقى أو الأفلام أو البرامج التلفزيونية، ويمكن أن يعكس هذا الاستهلاك الثقافي الذوق الفني والثقافي للشخص أو المجتمع.
لا بد وأن أشير إلى الفارق ما بين الاستهلاك الثقافي وثقافة الاستهلاك فقد يحدث التباس ما بين المفهومين في حين أنهما يختلفان بصورة ما. ثقافة الاستهلاك مفهوم شامل لمدارك الإنسان الاستهلاكية وانعكاسها على النسق العام لنشاطه الاستهلاكي، في حين أن الاستهلاك الثقافي يخص استهلاك المعطيات الثقافية والتي أشرت إليها سابقاً. ورغم هذا الاختلاف إلا أن المفهومين يتقاطعان معاً في تأثيرهما على الفرد والمجتمع، وأثرهما في تكوين مفاهيم ووعي الفرد والمجتمع.
يتميز الاستهلاك الثقافي بأنه يعتمد على منتج لا يمكن احتكاره بمعنى أن المنتج الثقافي قد يكون منتجاً حكومياً أو شعبياً، وقد يكون منتجاً جماعياً أو فردياً. فلا يمكن لفئة أن تحتكر الإنتاج الثقافي، وكذلك يتميز أيضاً بأنه متغير وقابل لاستيعاب أنماط جديدة ومختلفة من المنتجات الثقافية مثلما حدث في السنوات الأخيرة من احتلال شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لمساحة كبيرة من أنماط الاستهلاك الثقافي للإنسانية، كما أنه قابل للنمو والتجديد في الأنماط القديمة بصورة حتمية. وأهم ما يتميز به هو أن كل استهلاك ثقافي يؤدي إلى إعادة إنتاج منتج ثقافي جديد بإضافات معرفية تزيد من قيمته، وتصنع تراكماً معرفياً مستداماً، يساهم في منتجات ثقافية أخرى.
الاستهلاك يؤدي إلى فناء السلعة المستهلكة لكن مع الاستهلاك الثقافي الصورة معكوسة، فهو الاستهلاك الذي يزيد من قيمة السلع المستهلكة، فهو يتعامل مع المعرفة والفكر والوعي والمتعة الروحية الكامنة في علاقة الإنسان بالفكر والفنون. فكلما زاد نهم الإنسان على استهلاك المنتجات الثقافية، كلما اتسع وعيه ومداركه، وزادت قيمة رصيده المعرفي. وفي النهاية ينعكس ذلك على استيعاب الإنسان للحياة، والكون، والحضارة، والإنسانية.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة