الإرث القيمي وعلاقته بالأديان
نجحت صيرورة الأيام في تعليم الإنسان وإقناعه بأنه يعيش في مدار مليء بالتحديات والمفاجآت التي تسير على عكس توقعه، ليعود محاولاً شحن ذاته بمنظومة قيمية يستقيها من الدين.. فكيف تعاملت الحضارات السابقة لظهور الأديان مع أزماتها؟ وكيف استطاعت الاستمرار دون «قوننة أخلاقية دينية»؟
إن طرح هكذا تساؤل هو رد فعل طبيعي لما يعيشه الإنسان اليوم من حالة شعورية ذات صلة بالدين، إذ لا يتردد أحدُنا في الهرولة إلى الدين والأساسات الأخلاقية التي يحض عليها بمجرد مواجهته سلوكاً يصطدم مع فطرته أو يستهجنه «العقل الأخلاقي» الذي يتكون من خلال التنشئة الأولى «الأسرة»، تليها البيئة التعليمية والأكاديمية، بالتزامن مع التربية الدينية المبنية على الأوامر والنواهي المستقاة من مصادر التشريع. لكن ألا يبدو أن الإنسان وهو في طريقه لاستيعاب «ألفبائيات» بنيوية الأساس الأخلاقي أهمل شيئاً ما؟
إن القيم ترتبط بشيء عميق للغاية، وهذا ما يفسر تأكيد وتركيز الشرائع السماوية عليها وحيازتها مجالاً عريضاً من النص الشرعي ذاته، ذلك الشيء هو الفطرة البشرية والطبيعة الخيرية المكنونة في النفس، ولذا نجد أن الفضائل والقيم تنتقل بين الأجيال والحضارات التي سبقت حتى نزول الأديان السماوية، فتجد منظومة قيمية واسعة لدى كل من العرب القدامى والرومان واليونان والفرس والسومريين والكنعانيين والفراعنة. ومن ذلك فقد تقولبت السلوكات الأخلاقية في بعض أفرعها لتكون من غير القيم المطلقة، فكانت نسبية قابلة للتحوير والتعديل مع تغير الزمن ومجرياته، وبخاصة في الظروف الاستثنائية مثل الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية.
ولأن كل المعطيات تشير للعلاقة الوثيقة بين الفطرية البشرية والفضائل الأخلاقية، فإن ذات النقطة تدلل على تفاوت الصورة القيمية لتلك الفضائل بتغير الزمان والمكان، مع ثبات الحاجة للمنظومة الخُلقية من جهة، وعدم تلاقي الفضيلة والأعمال القبيحة من جهة ثانية، لكن هذا لا يؤول في أحد جوانبه باعتبار الأخلاق موجودةً بمجرد ولادة الإنسان، وإلا لصارت كأي من أعضائه التي لا يحاسب على وجودها من عدمه، وبالتالي فإن الاستعداد الفطري والقبول الغريزي لوجود الأخلاق هو موجود بالفطرة، لكن تدعيمه وبناؤه السليم وإغناؤه هو ما تقوم به التربية فيما بعد، ولذلك فهو غير متساوٍ لدى الجميع.
لقد نقل لنا التاريخ صورة دقيقة عن التحولات السلوكية الأخلاقية التي صاحبت كل وجود إنساني عبر الحضارات وتعاقبها، وبذلك فلا يمكن حصر المنبع الأخلاقي في بوتقة دينية وحسب، مع الاعتراف بتفاوت العادات الأخلاقية لدى الحضارات قبل وبعد نزول الأديان السماوية، وبالتالي نجد في المنحى الفلسفي تبريراً يقر بنشأة «الضمير»، الذي نبع عن وجوده الأخلاق. فتجد في الحضارة المصرية والفرعونية القديمة فضائل كبرى منتشرة بينهم، منذ أربعة آلاف عام قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وألفي عام قبل نزول التوراة المقدس الذي حث على العديد من القيم. وبالتالي فإننا نستدل على أن هناك إرثاً أخلاقياً إنسانياً ممتداً منذ القدم كان له دور كبير في توجيه السلوك الإنساني والطابع العام القيمي للمجتمعات الإنسانية، وبذلك فإن الشرائع السماوية أكملت ما كان من فضائل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّما بعثتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ»، موجدةً المخارج الأخلاقية التي لم توجدها الحضارات من قبل، كما أقرت بعض الفضائل السابقة لتثبيت إلزاميتها حتى في ظل اختلاف الظروف والتحولات، فالإنسان يجب ألا يفقد بوصلتَه الخُلقيةَ حتى في أحلك الظروف.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة