صناعة الذاكرة
تعود جميع مسميات الهُوية - من السردية التاريخية أو الثقافة المجتمعية - إلى الشيء نفسه: الذاكرة المشتركة، وهي تراكمات القرون لا الأيام والأعوام. وفي ظل الاهتمام الكبير الذي توليه المؤسسات المجتمعية الوطنية لمسألة الهوية بصفتها سرداً أو عرفاً، فإن الذاكرة المشتركة أهمُّ ما نحافظ عليه، لأننا نجد فيها ما يربطنا بكل مَن يشاركنا في المعتقد واللغة والتاريخ، والإنسان يفهم نفسه من خلال فَهْم مكانه ضمن المجموعة. وقد باتت مسميات الهوية تُعرَّف بصفتها إشكالاً، ويكمن هذا الإشكال في محاولات تفكيك تراث متكامل لا يتجزأ.
وإذا نظرنا إلى المواقع الأثرية في قائمة التراث العالمي، مثل موقع «هيلي» الأثري بمدينة العين - وأهمُّ معلم فيه المقابر الكبرى من عصر أم النار- فسنرى أنه متاح للزوار بفضل أعمال الترميم التي أُنجِزت في عام 2005، وسندرك عندئذٍ مقدار الجهد المبذول لحماية التاريخ وترميم الآثار، لأنها إذا دُمِّرت، فستختفي ملامحها وذكراها.
وكذلك الذكريات، إذا أُهملت دُمرت، فهي تتطلَّب اهتماماً منا، وترميماً وإعادةَ تقديم. وينبغي أن نتصور أننا زوار في متحف، نتجول لنتعرَّف إلى القطع الأثرية، وعندما تنتهي جولتنا نشتري قطعاً مقلَّدة من قسم الهدايا التذكارية، فالتاريخ لا يُشترَى، ولكنه يُحفظ بصور جميلة في مخيلتنا، وهكذا تُصنع الذكريات المجتمعية.
ولا شك أن لدينا في العالم العربي إرثاً ممتدّاً ومشتركاً، ولكن الإرث الأممي يتعرَّض للتفكيك، من جرَّاء العولمة سابقاً، ومن جرَّاء العولمة المضادة في الوقت الحاضر. وهذه الازدواجية بين صدِّ العولمة، والدفع نحو الانفتاح، تجعل التعامل مع موضوع الهوية الوطنية إشكالاً أكبر، عندما يتقيَّد بتاريخ محدود المدة قد يبعدنا عن الطريق الصحيحة في معالجته، وذلك لأن للهوية مقومات ثلاثة لا بدَّ من استحضارها في بداية كل مخطط تطويري أو علاجي لمسألة الهوية، وهي المعتقد واللغة والتاريخ. وثمَّة باحثون يقدمون دلائل من شأنها إعادة تشكيل آراء العامة بشأن أمور تاريخية عدَّة، نستعرض فيما يأتي ثلاثة منها مع الاستدلال بالشعر في كل مرة.
وأول هذه الأمور تجارة قريش وباقي القبائل العربية قبل الإسلام، ورحلاتها الواسعة في الشتاء والصيف، إذ يُراد لنا أن نتقبَّل فجأة أن التاريخَين التجاري والثقافي هذين كانا عدَماً، في حين أن سِيَر أهل الجاهلية وآدابَهم تؤكد مركزية هذه الطرق التجارية، وكذا طريق البخور العربية، والأسواق الموسمية التي فاق عددها العشرين سوقاً، وكانت مميزة ببضائعها الفريدة، وغنية بثقافتها وآدابها، حتى إن قريشاً كانت تُعرف في العصر الجاهلي بـ«العالِميَّة»، لفضلها وعلمها، وقد ذُكرت هذه التسمية في أشعارها:
ألسنا أهل مكة عالميًّا *** وأدركنا السّلام بها رطابًا
والأمر الثاني أنه يُروَّج لنا أن المعارك والخلافات في المنطقة كانت سمة سابقة ولا تزال باقية، وكأن استقلال الفكر وتنوُّعه يحولان بين العرب ووحدة تاريخهم، والحقيقة أن التحالفات بين القبائل كانت أصيلة - برغم اختلاف الرأي بينها - من قبل الإسلام، ومن غاياتها إنصاف المظلوم، وحماية الغرباء، فهذا الزبير بن عبدالمطلب يقول في شعره واصفاً «حلف الفضول» - أحد الأحلاف العديدة في التاريخ - ما يثبت أن التوافق كان يتم على مبادئ وقيم ثقافية، وهي القيم نفسها الحاضرة في ذاكرتنا إلى الآن:
حلفتُ لنعقدنَّ حلفًا عليهم *** وإن كنا جميعًا أهل دارِ
نسميه الفُضُول إذا عقدنا *** يعِزُّ به الغريب لدى الجوارِ
ويعلم مَن حوالي البيت أنَّا *** أُباةُ الضيم نمنع كل عارِ
والأمر الثالث ما يُشاع في عصرنا من صورة سلبية عن الكتاتيب، فكثيراً ما يُزعَم أنها طالما كانت مصانع للمتطرفين، وأن التعليم فيها كان بدائيّاً وسطحيّاً، في حين أن العديد من الباحثين أثبتوا دورها الكبير في نشر القرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية والكتابة. وقد انتشرت الكتاتيب في جميع أرجاء البلاد العربية منذ زمن بعيد، فهذا المفكّر السوري نزيه مؤيد العظم يقول في مذكراته عن الرحلات في البلاد العربية مطلع القرن العشرين: «مررنا في منتصف الزقاق بكُتَّاب الأولاد الصغار، وكان صوت قراءتهم بالغاً عنان السماء، فهم كغيرهم من الأولاد في كتاتيب البلاد الشرقية - بما فيها دمشق - يقرؤون بالجملة لا بالمفرد»، ففي كل مدينة كانت الكتاتيب تشبه بعضها بعضاً، ويبدأ فيها الأطفال دوامهم من بعد صلاة الفجر كل يوم ما عدا الجمعة. وفيما يأتي أبيات عاصرت صاحب الرحلات، يلخص فيها الشاعر العراقي معروف الرصافي دور الكتاتيب في المجتمعات قديماً:
مدارسُ بالشُّبان تزهو ودونها *** كتاتيب للتعليم تزهو بأطفالِ
بها جُلُّ درس القوم طبٌّ وحكمةٌ *** وفلسفةٌ فيها لهم أيُّ إيغالِ
وكانت نفيسات الصنائع عندَهمْ *** يحاولها ذو الفقر منهم وذو المالِ
وما كان هذا الحال في الرَّيِّ وحدها *** بل الحال في البُلدان طُرًّا كذا الحالِ
إن الإشكال ليس في الهوية، بل في التشكيك في الحقائق التاريخية، وتجزئتها، وتفكيكها. وإذا كانت القوة الناعمة تعمل على إرساء التبادل والتفاهم العالميَّين، فإن «العروبة الناعمة»، كما عرفها المفكّر العراقي عبدالحسين شعبان، تُحقِّق وتحيي الجوامع الثقافية بيننا مع ميثاق الوطنية. وإن كل ما نبحث عنه نلقاه في دواوين العرب وقصائدهم على مر العصور، وفي أيامهم وقصصهم وأساطيرهم، فمن السيرة الهلالية نجد الأمثال التي تسلَّلت إلى حياتنا اليومية، وشكَّلت هويتنا، والأهازيج التراثية المغناة، والقيم الإنسانية، والفنون الأصيلة.
ويزيدنا الفخر بموروث أمتنا العربية، والاعتناء به، إصراراً على تحقيق طموحاتنا في أوطاننا، وكذلك فإن القصص، التي خلَّدها الشعراء في أبياتهم، تحرِّك في كلٍّ منا الانتماء إلى المعاني الجمالية بداخلنا، لتسكن فينا الذكريات.