الأديان.. من سبب للصراع إلى آلية للسلام
لا يختلف أحد على أن التأويلات الدينية الخاطئة كانت ولا تزال أحد أسباب النزاعات والصراعات والحروب بين الأمم والشعوب والدول، منذ نشأتها إلى الآن، ولكن ما ينبغي على الجميع إدراكه أن ذلك لم يكن أبداً لعيبٍ في رسالات الأديان أو خللٍ تربويٍ في مدلولات نصوصها، وإنما لشططٍ في تأويلات بعض معتنقيها، من الجماعات الدينية المتطرفة، ومفسري نصوصها، حيث وظَّفوها لخدمة أغراض ذاتية، إضافة إلى جماعات الإسلام السياسي التي ترفض التطور والتنوير وتصر على استجلاب الماضي، وتعمل على تكريس رؤية للدين تجعل منه سبباً للصراع.. حيال ذلك، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة، وبفضل قياداتها الرشيدة، أول من استشرفت هذا الخطر الداهم، وعملت على مواجهتها من خلال تأكيد جوهر رسالة الدين في حياة الشعوب والأمم والتي تتمثل في نشر المحبة والسلام، والتي من شأنها أن تجعل من الدين آلية للسلام وليس سبباً للكراهية والصراع، ونجحت الإمارات بفضل سياستها الحكيمة ومبادراتها التسامحية، وفي القلب منها مبادرة وثيقة الأخوة الإنسانية، ومبادرة بيت العائلة الإبراهيمية، في جذب العديد من دول العالم ومنظماته الدولية، للعمل إلى جانبها لتحقيق الهدف نفسه. لكن يبقى السؤال الصعب: كيف تتحقق رسالة الأديان لتصبح آلية للسلام على أرض الواقع؟
معالجة التأويل الخاطئ للنصوص الدينية
يتطلب التصدي للمفاهيم المغلوطة في الأديان والتي تجعلها سبباً للصراع، بذل جهود مكثفة على مختلف المستويات المحلية والإقليمية والدولية، تُبنى على الجهود السابقة، وتشارك فيها جميع الأطراف المعنية بالسلام والتعايش السلمي، وتتخذ من الجهود والمبادرات الإماراتية في التسامح والتعايش السلمي ومواجهة التطرف والإرهاب، وغيرها من مبادرات للدول والهيئات، منطلقاً فكرياً ومؤسسياً لها، وينبغي أن تتضمن تلك الجهود استراتيجيات وخططاً متوسطة المدى وبعيدة المدى، لتحديد أسباب ومسببات الخلافات، سواء الناجمة عن التأويل الديني بقصد توظيف النصوص لأغراض ذاتية لا تمت للدين الصحيح بصلة، أو تلك الناتجة عن تساهل بعض الحكومات مع أفكار ومظاهر بعينها يُشتَمُ منها عدم احترام الأديان ورموزها، وتستغلها الجماعات المتطرفة في بث سمومها في المجتمع لتكريس فكرها الديني الذي يؤطر للصراع، وينبذ التعايش السلمي.
يُفضل أن تتسم المعالجة الناجعة لتحقيق هذا الهدف المنشود بأن تكون طويلة المدى، وتتسم بالنفس الطويل، ويُقترح لكي تكون أكثر نجاحاً، ألا تغفل الجوانب السياسية التي تستغلها الجماعات المتطرفة في توظيف الأديان للتدمير والتخريب، فتلك الجوانب والقضايا السياسية، وهي معروفة للجميع، يُفضل أن تكون ضمن الخطط والاستراتيجيات لمعالجة قضية التأويل الخاطئ، الذي يوظف الأديان والنصوص الدينية في تأجيج الصراع، على الرغم من أن رسالتها الحقيقية المشتركة هي التعايش السلمي وصنع السلام والمحبة للجميع.
ولأن تلك المعالجة تتعلق بعقائد راسخة في قلوب البشر من مختلف الأديان، ينبغي على الحكومات العربية اتخاذ ما يلزم لاحترام الأديان ورموزها عند الحديث عنها في وسائل الإعلام، وعند تدشين الفعاليات الرامية لتجديد الخطاب الديني من خلال تنقية التراث مما نسب للدين لتكريس نمط التأويلات الخاطئة، لأن إظهار البعض عدم احترامه للدين ورموزه، حتى ولو كان بحسن نية، أو من دون قصد، يكون له تأثيرات سلبية على درجة قبول المواطنين لما يقال لهم، حتى وإن كان صحيحاً، ويتطلب تحقيق ذلك فلسفة إعلامية ممنهجة لتحقيق ذلك الهدف، يتم تعميمها على مستوى العالم العربي، وتلتزم بها الوسائط الإعلامية كافة.
ولا يختلف أحد على أن مبادرة بيت العائلة الإبراهيمية ينطبق عليها المواصفات الواجب توافرها، في كل آلية يراد منها معالجة ظاهرة التطرف والإرهاب، سواء كانت إقليمية أو دولية، فالمعالجة تحتم على كل الدوائر المعنية بذلك الملف إبراز الدور الإيجابي للقيم المشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة، من خلال التركيز على القيم المشتركة وتنحية المسائل الخلافية بين الأديان جانباً، والحفاظ على علاقات التعايش الحالية القائمة بين أتباع الأديان السماوية الثلاثة، والاعتماد عليها لبناء علاقات جديدة بين أتباع الأديان الإبراهيمية الثلاثة، بما يعزز التقارب والفهم العميق المتبادل للهوية الدينية لأتباع كل ديانة، على اعتبار أن ذلك شرط أساسي لتحقيق النجاح في المعالجة المنشودة، وهو ما تأسس من أجله في دولة الإمارات العربية المتحدة، بيت العائلة الإبراهيمية، بناءً على مبادرة من سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، أُعلنت في الرابع من فبراير 2019.
التجربة الإماراتية قوة دفع لتحقيق الهدف
لا يأتي التركيز على التجربة الإماراتية في التسامح والتعايش السلمي كقوة دفع إيجابي على طريق تأكيد رسالة الأديان كآلية للسلام، من قبيل الرغبة في تعظيم الذات، وإنما تأتي استناداً على حقائق وأسس موضوعية يشهد بها القاصي والداني، فمبادرة «بيت العائلة الإبراهيمية» توفر المساحة الآمنة والمناخ المناسب للتعارف والتواصل بين أتباع الأديان في بيئة تتسم بالأمن والاستقرار، حيث توفر دولة الإمارات العربية المتحدة، مساحات مشتركة للناس ليتعرفوا على بعضهم البعض ويحترم بعضهم البعض ويعرفوا المزيد عن عقائد الآخرين الدينية بشكل أكثر عمقاً وموضوعية، من خلال التخلص من الأفكار النمطية السائدة وتأسيس حالة من التقارب من خلال مناقشة القضايا المشتركة، تسهم في مناقشة القضايا محل الخلاف بأريحية أكبر وصدور أكثر رحابة.
ونظراً لكونها عاصمة عالمية للتسامح بشقيه الديني والسياسي، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة تولي أهمية كبرى لدور رجال الدين ومؤسساتهم في حوار الأديان، لذا حرصت على مشاركة كبار رجال الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي في الحوار بصفاتهم، إذ يحظى رجال الدين في مجتمعاتهم بقدر كبير من الشرعية والاحترام والمصداقية، ولا يعني ذلك أن الحوار بين الأديان يجب أن يقتصر على رجال الدين، بل ينبغي أن يتسع ليشمل أيضاً مجموعات أكاديمية وفكرية تضم باحثي علم الاجتماع والنفس، وعلم النفس السياسي وخبراء السياسات العامة، والإعلاميين، كما ينبغي نقل ثقافة الحوار إلى الجمهور، وذلك بتحويله إلى حوار أوسع يضم أكبر قدر من الناس، ويتسم بالتوازن ويحقق أكبر قدر ممكن من الفائدة، بدلاً عن الحوارات الحالية التي تقتصر على النخبة الدينية والسياسية فقط.
فمما لا شك فيه أن اتساع دائرة الحوار بين الأديان سوف يؤثر بشكل إيجابي على أنشطة مثل هذه الحوارات في المنطقة، لأنه يُحيِّد الاختلافات الدينية، بمرور الوقت وتعميق التجربة، ويعمل، في المقابل، على تفعيل الجوانب المشتركة، وهذا هو بيت القصيد المنشود من الحوار بين الأديان.
صعوبات الحوار بين الأديان
إن تأكيد جوهر الأديان كآلية لتحقيق السلام يستوجب على الجميع العمل على تلافي الصعوبات التي تعوق الحوار بين أتباع الأديان ومنها، غياب البناء والإعداد الجيد لأنشطة الحوار، وتركيز المتحاورين على المسائل الدينية واللاهوتية، دون سابقة تعارف، يجعلها حوارات غير بناءة، إذ يخفي كل طرف بعض مواقفه الحقيقية عن الطرف الآخر، بالإضافة إلى أن اقتصار الحوار على القضايا الدينية واللاهوتية غالباً ما يؤدي إلى سوء الفهم، وهذه سلبية ينبغي معالجتها لتفعيل الحوار بين الأديان، وتُعد القضايا السياسية في المنطقة عائقاً أمام تطوير آليات الحوار بين الأديان، حيث يَصعب في بعض الأحيان، التمييز بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي، ولهذا تأثير سلبي منشؤه الاستغلال السيئ للدين لمصالح سياسية ضيقة لجماعات أو أفراد، وهذه الاتهامات لم تسلم منها مبادرة بيت العائلة الإبراهيمية، على الرغم من حسن القصد ونبل الهدف، إذ كانت هذه المبادرة تحديداً هدفاً للجماعات الدينية المتطرفة التي تعاملت مع المبادرة بروح عدائية إدراكاً منها للدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المبادرة في تأكيد رسالة السلام والتسامح التي تمثل جوهر الدين.
يُضاف إلى ذلك صعوبات أخرى تعترض الحوار بين أتباع الأديان منها، صعوبة تقييم الحوار ومخرجاته، إذ كانت مؤشرات نجاح مؤتمرات الحوارات السابقة بين الأديان، تقتصر على انعقاد الحوار بحد ذاته، دون تقييم قضاياه ومخرجاته.
ويمكن لمبادرة بيت العائلة الإبراهيمية أن تتجاوز هذه الصعوبات من خلال اقتراح بتدشين أمانة عامة للمركز الثقافي لبيت العائلة الإبراهيمية، تكون مسؤولة عن تقييم ومتابعة ومراقبة نشاط الحوار بين الأديان بشكل منهجي، والعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة التي يتم الترويج لها عن هذه المبادرة، من خلال عملية للحوار المستمر وسلسلة من الأنشطة والبرامج التي تطلع قطاعات كبيرة من قادة الرأي من الإعلاميين ورجال الدين والمفكرين والمثقفين على هذه التجربة من خلال الزيارات والجولات التي يجري ترتيبها على هامش منتديات وحلقات نقاش وبرامج أبحاث.
وتُمثل التصورات الخاطئة لعملية الحوار، والناجمة عن العلاقات المتوترة بين أبناء الأديان في المنطقة، إحدى الصعوبات التي تعوق الحوار بين أتباع الأديان، إذ تقود هذه التصورات كل طرف، حال حضوره لقاءات الحوارات، إلى الدفاع عن عقيدته بتأكيد الصورة الإيجابية لدينه وإزالة التصورات السلبية عنه، بدلاً من التركيز على تعزيز المشترك الإيماني والإنساني بين الأديان، والاستفادة منها لخدمة البشرية، وهذه ثغرة ينبغي معالجتها حتى تتحول الأديان من سبب للصراع إلى آلية للسلام، خاصةً أنها يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية بزيادة التصلب في فهم المعتقدات الدينية، وهو ما يقف عائقاً أمام التعرف على المشتركات مع الأديان الأخرى. مما يجعل الحوارات تبدو أمام البعض كما لو كانت وسيلة للخداع، تأتي بنتائج عكسية على الأرجح، ولا تؤدي إلى نتائج أو فوائد تذكر، أو على أقل تقدير تنطوي على كلام غير واقعي لا نصيب له من التطبيق على أرض الواقع.
بيت العائلة الإبراهيمية نموذج حوار للانسجام بين الأديان
الهدف من اقتراح إنشاء أمانة عامة للمركز الثقافي لبيت العائلة الإبراهيمية ضمن مؤسسات بيت العائلة الإبراهيمية، أن تكون الأمانة العامة نموذجاً للحوار والانسجام بين الأديان الثلاثة، إذ تعمل على تجنب الخوض في الخلافات، وتركز على القيم المشتركة بين الأديان الإبراهيمية، وتتبنى فلسفة جديدة تقود مسار الحوار بأكمله إلى القواسم المشتركة، بحيث يترسخ في أذهان الناس تأكيد الوحدة الإنسانية لأتباع الأديان، دون مساس بثوابت أي دين من الأديان الإبراهيمية الثلاثة، من خلال تعزيز التواصل الرسمي وغير الرسمي بين المشاركين في الحوارات من أتباع هذه الديانات لتحقيق قدرٍ من الألفة بينهم، تلطف الأجواء وتسهم في تفعيل الحوارات، مع الحرص على مشاركة رموز معبرة عن الوحدة والتنوع في هذه الحوارات.
من حوار الدين إلى حوار الحياة
يناقش رجال الدين والباحثون والمفكرون، خلال الحوارات بين الأديان، القراءات المختلفة للمفاهيم الدينية ومن أمثلتها جذور النبي إبراهيم أو معنى الجهاد أو مكانة العذراء مريم في الإسلام والمسيحية، ويُسهم ذلك في تقديم قراءات جديدة للعقائد الدينية بهدف إثراء التفكير النقدي.
ولكن ما ينبغي عمله، من أجل تحويل الدين من سببٍ للصراع إلى آلية للسلام، هو أن تركز الحوارات بين الأديان على قضايا الحياة اليومية، بدلاً من تركيزها على المسائل المتعلقة بالعقائد الدينية فقط، وفي حال حدوث ذلك، فإن الحوارات سوف تنعكس بالإيجاب على تعاطيهم مع القضايا الاجتماعية والسياسية، بما يتضمن ذلك حقوق المواطنين وواجباتهم ومفهوم المواطنة والديمقراطية والاقتصاد.
ويعزز هذا النوع من الحوار التعارف بين المشاركين من أتباع الأديان المختلفة من خلال التركيز على القضايا ذات العلاقة بحياتهم الدنيوية، خاصةً أن القضايا التي تنطوي على الاختلافات الدينية غالباً ما تكون من اختصاص رجال الدين.
في الختام، يُعد توسيع أفق حوار الأديان- كي لا تكون حوارات مُغلقة بين رجال الدين، وذلك بوضعها في إطار أشمل وأوسع يتضمن مشاركةً أكبر من الجماهير كالشباب والنساء - ضرورة ملحة وخطوة مهمة باتجاه تقوية دور جهود بناء السلام بين الأديان ومن ثم تحقيق النتائج الإيجابية بهذا الشأن في المنطقة العربية. إذ بات ضرورياً الانتقال بالحوار بين الأديان من النمط القائم على النخب والمفكرين إلى نوع من أنواع الحوار الجماهيري القاعدي، ومن الحوار القائم على مبدأ من القمة إلى القاعدة الذي يركز على القضايا اللاهوتية الدينية إلى نمط آخر يقوم على أساس بناء العلاقات الإنسانية بين أتباع الأديان المختلفة والسماح لهم بمواصلة التفاعلات فيما بينهم خارج أوقات الحوارات والمؤتمرات الرسمية.
هكذا كان النجاح في حقل حوار الأديان على التغييرات المتواضعة التي تحصل على مستوى المشاركين في الحوار بين الأديان، بما في ذلك التغيير في نمط التفكير والمواقف التي يتخذونها. لأن النجاح على مستوى حوار الحياة يتحدد بمعايير معرفة الشعوب ببعضها البعض وقبول بعضهم البعض. حيث تتحقق الثقة والاحترام والصداقة، وسوف يؤدي هذا بالضرورة إلى التغيير السياسي والمؤسساتي.
*كاتب إماراتي