دولرة لبنان.. و«التسوية الإنقاذية»
أكدت مساعِدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى «باربرا ليف» للمنظومة الحاكمة والقادة السياسيين في بيروت، أن «أميركا تريد تكوين السلطة في لبنان، لأن الوضع الاقتصادي متدهور، ولا يمكن أن يستمر لمدة طويلة». ودعت «ليف» إلى ضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على حل بأسرع وقت ممكن. وفي الوقت نفسه حذّر رئيس بعثة الصندوق أرنستو راميريز من أن لبنان «عند مفترق طرق، ويمر بلحظة خطيرة للغاية»، مشيراً إلى أن «الستاتيكو القائم، والتقاعس عن اتخاذ إجراءات إصلاحية، من شأنه أن يضع البلدَ في أزمة لا نهاية لها».
ووفقاً لتصنيف البنك الدولي، فإن ما يعيشه لبنان حالياً هو أحد أسوأ ثلاث أزمات مرت بالعالم بعد تشيلي عام 1926 وإسبانيا (1936-1939)، وإنه يحتاج بين 12 و16 عاماً للتعافي. وبما أن «السلطة السياسية» قد تأخرت في اتخاذ الإجراءات اللازمة، فإن لبنان اليوم أمام خيارات صعبة، ومن شأن هذا التأخير أن يؤدي إلى إطالة الأزمة، ما يعني أن اللبنانيين سينتظرون حتى عام 2040 كي يستعيد بلدُهم حجمَ ناتجه المحلي كما كان عشية الأزمة عام 2019.
ومع الأخذ في الاعتبار تعدد وتنوع الأزمات التي يواجهها لبنان، من أزمة حكم سياسي، إلى انهيار اقتصادي واجتماعي ومالي ونقدي، وتدهور كبير لسعر صرف الليرة، فضلاً عن أزمات ارتفاع حدة الفقر والبطالة والهجرة.. فإن المشكلة الأساسية تكمن في حكم «الدولة الفاشلة»، والتي لا تملك الإرادة والسرعة في اتخاذ القرار المناسب. وفي هذا المجال لفت نظرَ اللبنانيين الموقفُ الأميركي من الأزمة المصرفية الأخيرة، عندما سارع الرئيس جو بايدن للإعلان عن خطة لدعم القطاع المصرفي، وطمأن الأميركيين إلى أن ودائعهم مضمونة، وقال في بيان رسمي: «أنا ملتزم بشدة بمحاسبة المسؤولين عن هذه الفوضى»، ومؤكداً أنه «يمكن للشعب الأميركي والشركات الأميركية أن يثقوا في أن ودائعهم المصرفية ستكون موجودة عندما يحتاجون إليها». وقد استجابت المصارف لطلب الزبائن الذين سحبوا نحو 98 مليار دولار في أسبوع واحد.
ووفقاً لخبراء متخصصين فإن التشابه بين الأزمتين اللبنانية والأميركية كبير لناحية الأسباب، وهي أسباب تتعلق بسوء إدارة المخاطر وعدم التوازن بين آجال الودائع وآجال التوظيفات، وكذلك لجهة أزمة نقص السيولة.. لكن الفرق يكمن في سرعة المعالجة والقرار الرسمي الصحيح لاحتواء التداعيات في حالة الأزمة الأميركية، بينما العكس تماماً حصل في لبنان. وهذا مع العلم بأن القانون اللبناني يتضمن سلسلةَ إجراءات وقائية واحتوائية يفترض تطبيقها لحماية المودعين كما حصل في أميركا. ولذلك لو أعلن الرئيس السابق ميشال عون، الذي حصلت الأزمة في عهده، بأن ودائع اللبنانيين مضمونة، ولو لم يعلن رئيس الحكومة السابق حسان دياب في مارس 2020 التوقف عن دفع ديون «اليوروبوند»، لما حصلت الأزمة وفقد لبنان ثقةَ اللبنانيين والمجتمعين العربي والدولي به، خصوصاً أن البنك المركزي كان قادراً على دفع السندات المستحقة من احتياطه البالغ في حينه نحو 34 مليار دولار. لكن هذا المبلغ تم هدره خلال السنوات الثلاث الماضية بالإنفاق على فساد «الدولة الفاشلة»، ولم يبق منه سوى 9 مليارات دولار، منها نحو 5 مليارات لإعادة هيكلة ميزانية النبك المركزي نفسه، ويبقى فقط 4 مليارات دولار، وهي لا تكفي لتغطية المستوردات لمدة ثلاثة أشهر، الأمر الذي كشف عجزَ السلطة النقدية عن حماية الليرة التي خسرت 98% من قيمتها، حتى تجاوز سعر دولار بيروت 110000 ليرة، وتعممت «الدولرة الشاملة». وبذلك فقدَ لبنانُ سيادتَه النقدية التي أصبحت مرهونةً بإنضاج المخارج الجديدة لصياغة «تسوية إنقاذية» في ضوء التطورات الإقليمية والدولية.
*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية