قصور الديمقراطية وتفوق الملكية
استكمالاً للمقالة السابقة، أود النقاش مع الأطروحات التي تربط اسم الخليج في اللجاج الإعلامي عند الحديث عن الديمقراطية، هذه المحاججة تأتي من مفكرين غربيين، ومن تيارات هي أمشاجٌ من اليساريين والثوريين العرب.
وكل ذلك منطلق من توصيف أحادي سطحي للديمقراطية، إذ تؤخذ باعتبارها فصيلاً مستقلاً عن المؤثرات الأخرى في الدولة والمجتمع، ويتم تفسيرها بشكلٍ تقني يرتبط بالانتخاب بشكلٍ أساسي، بينما طرأت تحوّلات كبرى على مفهوم «الديمقراطية» بالمعنى الفلسفي، إذ تزحزح مراراً عن كونه مجرّد تقنية انتخابية، أو آلية إيصال مرشّح، وذلك مرده إلى تطور المفاهيم المرتبطة به، سواء «الدولة» أو «الحريّة» أو «العدالة» أو «الليبرالية» و«العلمانية». كل تلك المفاهيم هي منابع يتغذّى منها مفهوم الديمقراطية ويعتاش عليها، ومن الصعب الوقوف عند كل التداخلات تلك، لكن يمكن المرور سريعاً على مستوى ذلك التداخل، وأثره على تمتين مفهوم الدولة، تطوّر شهده المفهوم من جون لوك إلى جان جاك روسو وتوكفيل، وصولاً إلى راولز وغوشيه وتشارلز تيللي.
جون راولز في أبحاثه المتعلّقة بمحاولة التأسيس لمفهوم جديد للعدالة كان يرسّخ نظرياً لفكرة حضرت من قبل لدى المنظّرين الأوائل لموضوعات العقد الاجتماعي (مثلاً كتاب «أصل التفاوت» بين الناس لروسو)، لكنه سعى لجعل دراسة مستويات الإجحاف في النظام غير الديمقراطي، ومن ثم تصويب ذلك الخلل من خلال العدالة بوصفها «الإنصاف». من ذلك ينطلق آلان تورين في كتابه «ما هي الديمقراطية – حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية» إلى اعتبار أن «الديمقراطية لم تكن تكتفي بطرح المساواة بالحقوق بصورة تجريدية، بل إنها كانت تدعو إلى المساواة على سبيل مكافحة التفاوتات والإجحافات القائمة»، لا سيما تلك التي تحول دون الوصول إلى مراكز القرار العام.
ولو أن المبادئ الديمقراطية لا تفعل فعلها بما هي ملاذ ضد هذه التفاوتات، لكانت نفاقاً لا طائل تحته، ثم يشير إلى معنى مهم، إذ يعتبر «فكرة الديمقراطية لا يمكن أن تنفصل عن فكرة الحقوق، وبالتالي لا يمكن أن تختزل إلى مقولة حكم الأكثرية»، بالنسبة إليه الديمقراطية «لا تتحدد بفصل السلطات، بل بطبيعة الصلات القائمة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي والدولة».
والديمقراطية بالنسبة لتورين يستحيل أن يروّج لها كتجربة واحدة، بل يستحيل التماهي بين التجارب، وبخاصة ذات الفوران المرتبط بنشأة الدول القومية، بل إنها تتقلّب بين عدة نماذج وصور قوامها بحسبه وضع صيغة للحياة تزوّد العدد الأكبر بأكبر قسطٍ من الحريّة.
بينما جون راولز يعتبر نقطة الانطلاق للتفكير بالحقوق «أن تقوم على أسسٍ سياسية لا فلسفية». قد تشوب نصوص راولز بعض التشعب للقارئ العام، ولكنني أحيل إلى أطروحة أكاديمية ممتازة لمحمد هاشمي بعنوان: «جون راولز والتراث الليبرالي»، فهي غنية وواسعة. لكن لا بد من العودة هنا للمتن الرئيسي «العدالة كإنصاف – إعادة صياغة»، فهو في القسم الثاني من الكتاب وفي الصفحات ما بعد 301 يبرهن الفيلسوف على أن الفكرة تثمر ست أفكارٍ خيّرة وخلاصتها: «فكرة الخيري بمعنى العقلانية»: تكوين المواطنين لخطة حدسية عن الحياة. «فكرة الخيرات الأوّلية»: تعيّن حاجات المواطنين مقابل التفضيلات والرغبات والغايات النهائية طبقاً للمفهوم السياسي ولوضعيتهم كأحرارٍ متساوين.
*كاتب سعودي