وداعاً الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة.. صديق الفكر ورفيق الدرب
من الناس من يمتلكون رؤى ملهمة وأفكاراً تترك آثاراً إيجابية تدوم لأجيال تالية. ويتعاظم هذا الأثر في حياة الشعوب والمجتمعات، إذا امتزجت هذه الرؤى وتلك الأفكار برجاحة العقل، وجرى صقلها بالمعرفة والخبرة. وقليلون هم من استطاعوا الجمع بين الثقافة والفكر، فكانت لهم إسهامات كبيرة على الصعيدين. من هؤلاء رفيق الدرب في مسيرة تعزيز التسامح والتعايش السلمي بين الشعوب والدول، معالي الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رئيس مجلس أمناء مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي، ونائب رئيس مجلس الأمناء المدير التنفيذي لمركز عيسى الثقافي، الذي وافته المنية، الأحد الماضي. إذ كان لأفكاره ومجهوداته، خاصة في مجال التعايش السلمي، دور مؤثر في نهضة مملكة البحرين، من خلال جهوده الجليَّة في مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي. وكان الفقيد من أشد المؤيدين لوثيقة الأخوة الإنسانية الموقعة في أبوظبي في الرابع من فبراير 2019، بجهود مخلصة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة -حفظه الله.
إن إرث الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، سيظل باقياً وستظل أعماله خالدة وشاهدة على قوة كلمته وروحه الإنسانية. ولم يسخر الرجل حياته وعلمه لخدمة بلده وشعبه فقط، وإنما كانت إسهاماته العلمية والثقافية متجاوزة وممتدة لمنطقة الخليج العربي وللأمة العربية وللإنسانية بشكل عام. وسوف تستمر قراءة ودراسة أعماله لأجيال وأجيال، وسيتم دائماً تذكره ككاتب ومفكر وناشط ترك أثراً دائماً على العالم، وما يهون علينا أن روحه ستستمر في العيش معنا من خلال كلماته وأفعاله التي ساعدت وستساعد الكثيرين.
دور ملهم في عالم الفكر
لقد تركت وفاة الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة فراغاً كبيراً في العالم الأدبي والثقافي والفكري في منطقة الخليج العربي والمنطقة العربية ومعظم دول العالم، لقد تجاوز الرجل حدود الفكر التقليدي وتحدى المعايير المألوفة من خلال كتاباته وأنشطته المختلفة، إذ كان الفقيد قائداً في عالم الفكر ألهم عدداً لا يحصى من الأفراد للتفكير بشكل نقدي في الوضع الراهن. ولقد أشاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين، بمناقب الفقيد وما حققه من إنجاز عبر مسيرته وما قدمه من عطاءات وخدمات جليلة للوطن من خلال المهام والمسؤوليات التي تولاها في الدولة، وجهوده ومساعيه الخيرة لتعزيز دور البحرين الحضاري والإنساني الريادي الذي تميزت به على مر العصور في ترسيخ قيم ومفاهيم التعايش والتسامح والسلام والاعتدال، ومد جسور التواصل وتعزيز الحوار والتقارب الحضاري بين أتباع الأديان ومختلف الثقافات.
متفائل بالمستقبل
وعلى الرغم من انشغالات الأدباء والكتاب المستمرة، فإنه كان متواجداً في أغلب اللقاءات والمنتديات في الإمارات، والبحرين، والسعودية، والمغرب، ومصر، والأردن ودول أخرى، وفي فعاليات متعددة ومختلفة. عندما تلقاه، تلمس فيه صفات وقيماً تعكس معدنه الأصيل ومنهجه العقلاني، وتُظهِر أنه رجل فكر وثقافة من طرازٍ فريد، وتراه واثقاً من نفسه معتزاً بها بتواضع الكبار، وكان متفائلاً بالمستقبل إلى أبعد مدى، سواء مستقبل منطقة الخليج العربي، أو المنطقة العربية، وكان يشع على كل من حوله بروح التفاؤل، حتى في الأوقات والظروف الصعبة التي كانت تمر بها أمتنا الخليجية والعربية. ورغم ثقافته الموضوعية الواسعة، التي كانت تبهر الجميع، فإنه كان مستمعاً جيداً، ومناقشاً يمتلك كل أدوات الإقناع، وتلك شيمة الرجال الكبار في القامة والمقام، وعلاوة على ذلك، كان الرجل يمتلك منهجاً عقلانياً ورؤىً سليمة وأفقاً علمياً وسياسياً واسعاً، وكان ذلك أحد أسباب النجاحات الكبيرة والإنجازات المهمة التي حققها خلال مسيرته العملية، في كل المؤسسات التي أدارها، وتلك التي كان عضواً فيها، وكان -رحمه الله- عاشقاً لبلده البحرين، ومعتزاً به، وكان الوطن العربي كله في قلبه، فقد كان عربياً حتى النخاع، فضلاً عن حبه لدولة الإمارات العربية المتحدة، وتقديره لحكامها وشعبها، وانشغاله بهموم الخليج العربي وثقافته وأمنه ومستقبله، كجزء أصيل من اهتمامه بمستقبل العالم العربي.
باحث حريص على التنوير
كان الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رحمه الله، رجلاً مخلصاً ومتفانياً في عمله، غزيراً في عطائه، حريصاً على تنوير مجتمعه، مساهماً في تطوير ونهضة بلاده، فقد كان باحثاً يدرك أهمية المعلومة في إعداد الاستراتيجيات وبناء الدول والمجتمعات، وكان خبيراً استراتيجياً يدرك أبعاد العلاقة بين الحرف والموقف، في كل ما يقول ويكتب، وكان مثقفاً يدرك أهمية الثقافة في تغيير واقع الإنسان والمكان إلى الأفضل، وكان مُعلماً يدرك أن التنوير إحدى أهم أدوات الاستجابة للتغيير ومواكبة هذا العالم المتغير من حولنا، والذي يتغير بمعدل سريع يستوجب منا التحلي بنور المعرفة والبحث الدقيق المعمق لاستشراف المستقبل، حتى نكون نحن العرب، كياناً حياً فاعلاً فيه، وليس مجرد نقطة بلا قيمة على الهامش أو خارج الدائرة.
لقد جمعتني بالشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رحمه الله، صداقة طويلة مثمرة، بحكم عملي مديراً لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في الفترة من 2004 إلى 2020، وبحكم عمل الصديق الراحل نائباً لرئيس مجلس الأمناء المدير التنفيذي لمركز عيسى الثقافي، ورئيس مجلس أمناء مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي، حيث كان هناك تعاون علمي وثقافي مع المركزين لدعم قيم التسامح والتعايش السلمي وبحث مشاكل المنطقة والإسهام في مواجهتها بحلول استراتيجية، فضلاً عن أننا كنا معاً ولفترة طويلة عضوين في منتدى الفكر والثقافة العربي (منتدى عاصفة الفكر)، الذي يجمع نخب الثقافة والعلم والإعلام ومراكز البحوث والدراسات على المستوى العربي لتكون سنداً ودعماً لمتخذي القرار الاستراتيجي في دول الخليج العربي والمنطقة العربية، وقد وطد ذلك الوجود الفعال لكل منا داخل منتدى الفكر والثقافة العربي (منتدى عاصفة الفكر) صداقتي له إلى أن وصلت لدرجة الأخوة، بما تحمله الكلمة من معانٍ نبيلة، وعززت فعاليات المنتدى والتي شاركنا فيها بأوراق بحثية وعلمية معرفتي به عن قرب، فقد التقيته في معظم المؤتمرات، خاصةً المؤتمرات السنوية التي ينظمها المنتدى في دول الخليج العربي، وكذلك الندوات التي ينظمها مركز الشيخ عيسى الثقافي، في دول الخليج العربي ومصر، خاصةً ندوة (تحالف عاصفة الفكر)، والتي يتم تنظيمها سنوياً.
سمات مشتركة
كما كانت تجمع بيننا صفات مشتركة كحب الوطن والإخلاص والتفاني في العمل لرفعته، والرغبة في الإنجاز للإسهام في تطويره، كانت تجمعنا أيضاً رؤى فكرية عززت ورسخت من صداقتي له ومعرفتي به، إذ كان يؤمن بأن الفكر المتطرف والإرهاب لا يمكن مواجهتهما بنجاح إلا بفكرٍ معتدلٍ ومتسامح، وأنه لا يمكن لدول الخليج العربي مواجهة التحديات الخارجية، إلا بتعاضد صناع القرار وأهل الثقافة والفكر، وتوحيد جهودهما من أجل البناء والتنمية، بالإضافة إلى العمل في شتى المجالات لمواكبة مستجدات العصر، من خلال تطوير التعليم، وترسيخ أهمية المنتديات الفكرية في الوجدان الجمعي لشعوب دول الخليج العربي والمنطقة العربية.
فلسفة التعايش
ولا نبالغ هنا، إذا قلنا، إن الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رحمه الله، كان مرآة عاكسة في الداخل والخارج لفلسفة بلاده في التعايش السلمي، وهي الفلسفة التي تتبناها الأسرة الحاكمة وتستقيها من حضارة «دلمون» في البحرين، القائمة على التسامح والتآلف، والمسماة بـ «أرض الخلود»، والضاربة في أعماق التاريخ، وكان الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رحمه الله، يتسم بقدرة فائقة على ترجمة فلسفة ورؤى جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين، إلى برامج عمل قابلة للتنفيذ، تتخذ من القيم السمحة البحرينية الموروثة منطلقاً لها، وذلك من خلال مركز عيسى الثقافي، ويشهد له القاصي والداني، بأنه نجح بشكل غير مسبوق، في إيصال رسالة البحرين في التسامح والتعايش للعالم كله، بالإضافة إلى أنه ساهم في رفعة شأن مركز عيسى الثقافي، من خلال الفعاليات التي نظمها المركز في دول عربية وأوروبية، خاصةً تنظيمه لفعالية «اليوم البحريني» في مهرجان «سفن هيلز» الدولي في المجر، وحرصه على أن يضم المعرض نحو 120 عملاً فنياً بين صور فوتوغرافية ولوحات تشكيلية، ما يشير إلى أن الدكتور الشيخ خالد بن خليفة، رحمه الله، يُعد رائداً في استخدام الفن والثقافة كمحتوى مؤثر في الجمهور العالمي لنشر صورة طيبة ترفع مكانة البحرين في العالم وتُوَصِّل رسالتها التسامحية إلى مختلف الدول.
دبلوماسية السلام
وكان الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رحمه الله، يؤمن بأن دبلوماسية السلام والثقافة -وهي الدبلوماسية القائمة على أدوات القوة الناعمة للدولة- قادرة على إظهار الصورة الحقيقية للبحرين، بعيداً عن مغالطات الإعلام الغربي، وقد نجح في ذلك نجاحاً مبهراً وأثبت للجميع أن البحرين لديها قوةٌ ناعمةٌ مؤثرةٌ في الآخرين، ويمكن الاعتماد عليها في إدارة ومعالجة ملفات ساخنة أو شائكة، ويُحسب له، أنه استطاع أن يجعل الثقافة متغيراً مؤثراً في معادلة حل المشكلات في البحرين، كما استطاع أن يجعلها صانعةً للكثير من الإصلاحات في القضايا السياسية والاجتماعية. وأسهم الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رحمه الله، بدرجة كبيرة، في تشجيع حركة التأليف والنشر والبحث العلمي والإبداع الثقافي والأدبي في المجتمع البحريني، وترك موروثاً علمياً وثقافياً غزيراً، يستفيد منه مَنْ يَخلفه في إدارة المواقع التي كان يشغلها قبل رَحيله، كما يستفيد منه الجميع، ليس في البحرين فقط، وإنما في معظم الدول العربية.
خسارة للمجتمع الثقافي
تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رحمه الله، حصل على دكتوراه الفلسفة في التاريخ الاقتصادي عام 1988 من جامعة «إسكس» في المملكة المتحدة، وشغل مناصب مهمة كثيرة، في البحرين ودول عربية، أبرزها منصب نائب رئيس مجلس أمناء «المركز العربي لتمكين الشباب» في المملكة الأردنية الهاشمية عام 2019، والرئيس الفخري عن البحرين لـ«مجلس الشباب العربي للتنمية المتكاملة» في مصر عام 2016، وترأس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الوطني في مجلس الشورى البحريني في الفترة بين 2002 - 2004، بالإضافة إلى عضوية «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» في البحرين بين 1997-2001، فضلاً عن اختياره عضواً في العديد من مراكز البحث والجمعيات الدولية المرموقة.
وإذ نؤكد أن رحيل الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، رحمه الله، يمثل خسارة كبيرة للمجتمع الثقافي والفكري الخليجي والعربي، فإن عزاءنا في رحيله، أن مملكة البحرين مليئة بالكفاءات، وفيها خير خلف لخير سلف في مختلف المجالات، وعلى الرغم من رحيله فإنه سيظل بذكرياته الطيبة ومواقفه النبيلة بيننا، فالسمعة الطيبة والذكريات الجميلة، أبداً لا تنسى، لأنها محفورة بكلمات من نور في قلوب محبيه، وكل الذين تعاملوا معه، رحم الله فقيد الثقافة الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، وأسكنه الله فسيح جناته.
*كاتب إماراتي