أزمة المنطاد الصيني
كل ما يتم تداوله في منصات التحليل السياسي حول «المنطاد الصيني» الذي ادعت الولايات المتحدة أنه منطاد تجسس فقامت بإسقاطه، وكل الحوارات، والجدل الذي بدأ منذ تعقب المنطاد وما زال مستمراً، سواء في الساحتين الأميركية أو الصينية، أو على مستوى العالم، وكل ردود الفعل وتبعاتها من الجانب الصيني أو الأميركي، السياسي والدبلوماسي، لا تعد شيئاً يذكر، مقارنة مع الرأي العام الأميركي الذي يعتبر أن ما فعله الرئيس الأميركي، يعد عملاً عظيماً لحماية الأمن القومي الأميركي.
اصطياد ذلك المنطاد كقصة قابلة للسرد، فتح شهية الساسة الأميركيين للاستثمار والاستغلال إلى أبعد الحدود، على المستويين الداخلي والخارجي، ومع أنها ورقة سياسية هشة، لا يمكنها الصمود في خضم الموضوعات الكبرى بين الصين والولايات المتحدة، مهما بدا تصاعد حدة المواجهة بين واشنطن وبكين وارتفاع الأصوات الغاضبة لدى الجانبين، والتي تنادي بالرد الحاسم على تدمير المنطاد أو تلك التي تطالب بالمزيد من الحسم على ما يطلقون عليه مسمى «التجسس الصيني»، فمن وجهة نظر تحليلية، لا يمكن للصين منطقياً أن تتورط في حادثة مشابهة، وإذا كانت ستفعل، فلن تستخدم منطاداً يحلق على ارتفاع 60 ألف قدم وهي مسافة تزيد أكثر من 18 ألف قدم عن تحليق الطائرات التجارية، ويكون حجمه بحجم منطاد ناسا العلمي!
لست أدافع عن الصين، ولست ضد الولايات المتحدة الأميركية في سياساتها وأمنها ومصالحها، على العكس، بل هي قصة يمكن النظر إليها كبحث للدراسة، وفهم تلك السياسات في أوضاع معينة، سواء الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة في الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، والتي تصاعدت مؤخراً بالشراكة التي تشبه التحالف بين روسيا والصين، وتصاعدت أكثر حول تايون، ثم محاولات حرمان الصين من «أشباه الموصلات المتطورة» لإعاقة تقدم صناعة الرقائق الإلكترونية التي تدخل في كل الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية إلى الأسلحة والمعدات العسكرية، من خلال وضع قيود تصدير كثيرة على الشركات التي تنوي تصدير تلك الرقائق إلى الصين.
تكشف الدراسة أن الأميركان قد خططوا بشكل عاجل للتعامل مع موضوع المنطاد، منذ أن ناقش الرئيس الأميركي مع القادة العسكريين يوم الثلاثاء 31 يناير 2023 قضية المنطاد لأول مرة، وحذره مستشاروه من إطلاق النار على المنطاد وإسقاطه على الأرض لأن الحطام قد يسقط على الناس أو المنازل، ولغاية إسقاطه يوم السبت 4 فبراير 2023، وبدا أن تلك الخطة السياسية والدبلوماسية والعسكرية والإعلامية لم تأخذ بعين الاعتبار محاور أساسية عدة مثل زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى الصين المدرجة سابقاً لمتابعة نتائج لقاء الرئيس «جو بايدن» مع الرئيس «شي جين بينغ» في بالي في أواخر العام الماضي، وكذلك نوعية وتأثير الرد الصيني على إسقاط المنطاد بإصرارهم على أنه منطاد مدني، إضافة إلى الهجوم الداخلي من قبل الحزب «الجمهوري» الذين يحاولون تصوير الأمر على أنه مجرد فشل آخر للإدارة الأميركية الحالية.
من غير الممكن علمياً وعملياً أن تُقدم الصين على أي عمل عسكري أو استخباري أو أي عمل عدائي في ظل الأجواء المتوترة عالمياً حول الحرب الروسية الأوكرانية.
فالحذر والتوتر والقلق من حوادث مشابهة، ليس من الصين فحسب، بل من أي دولة حول العالم، سواء أكانت جزءاً أم طرفاً في الحرب أو لم تكن، في أعلى درجاته، ويتم في الغرف السياسية والعسكرية والاستخبارية يومياً سرد حادثة اغتيال ولي عهد النمسا «فرانز فرديناند» مع زوجته أثناء زيارتهما لسراييفو من قبل طالب صربي يدعى «غافريلو برينسيب» يوم 28 يونيو للعام 1914، والتي تسببت في اندلاع الحرب العالمية الأولى، والتأكيد على أن العالم لا ينقصه حادثة أخرى تقلب التاريخ.
في المقابل، فإن ما نأمله من دول العالم أجمع، رؤية ودراسة النموذج الإماراتي السياسي والدبلوماسي، في التعامل مع أزمة الحرب الروسية الأوكرانية بتكثيف جهود الوساطة للتخفيف من حدة التوتر وآثار الحرب بشكل دائم، والتي تثمر عادة نتائج مذهلة في تقريب وجهات النظر المختلفة والمتصارعة والتي كان آخرها الوساطة الإماراتية التي حققت مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا وأدت إلى تبادل ما يقارب 200 أسير حرب وعودتهم إلى بيوتهم وعائلاتهم، والعلم والعمل على أن مثل هذه الجهود والخطط والاستراتيجيات التي تسعى للسلام وتحقيق الأمن، هي الوحيدة التي يمكنها إنقاذ العالم، من أي تصعيد سياسي أو عسكري قد يؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة.
* لواء ركن طيار متقاعد