حوكَمة رأس المال الدولي
تمر أسواق رأس المال الدولية هذه الأيام بمرحلة حرجة في تاريخها الحديث. فلقد تكالبت الأزمات على هذه الأسواق أثناء العام المنقضي وبعده، حتى بات من الطبيعي أن نسمع عن أكبر خسائر مسجلة في الثروات الفردية وأكبر إفلاسات مالية في التاريخ الحديث.
وفي ظل التكرار والتزامن والتشابك بين هذه الأزمات، فلا غرو أن تتفاقم تهديدات التأزم والركود في التدفقات الدولية لرؤوس الأموال في المستقبل المنظور. ولم تكن جائحة كورونا أو شيوع التضخم عالميًا هما وحدهما المهددين للأسواق المالية العالمية، رغم ما تمخض عنهما من رفع مستمر لأسعار الفائدة وإضعاف ملحوظ لربحية الاستثمارات المالية في الأسهم والسندات الدولية، فالتهديد الحالي لتدفقات رؤوس الأموال بين الأسواق الدولية لرأس المال يأتي كذلك من رافدين إضافيين، أولهما هو تفاقم مشكلة المديونيات الدولية، ولا سيما المديونية الأميركية الأكبر عالميًا والتي تتجاوز حالياً حاجز 31 تريليون دولار، والثاني هو الأزمات المتكررة في أسواق العملات المشفرة وإفلاس أشهر منصات تداولها. على أن العقبات المتعددة التي تحول دون تدفق مربح وآمن لرؤوس الأموال الدولية لا يوجد حل سحري لتجاوزها سوى تفعيل قواعد الحوكمة المالية الدولية، سواء حوكمة أنشطة الشركات دولية النشاط، أو حوكمة الأسواق المالية الدولية نفسها.
ذلك أن اتباع قواعد السلامة المالية والإفصاح والشفافية والمراجعة المحاسبية، والتي يتعين أن تتحلى بها الشركات الدولية وتحكم آليات عمل أسواق رأس المال، تعتبر صمام الأمان الأول لتعظيم ربحية الاستثمارات المالية والنزول بالمخاطر الرأسمالية لحدودها الدنيا. وبطبيعة الحال، تنبع أهمية حوكمة تدفقات رؤوس الأموال الدولية من أهمية هذه التدفقات لاقتصادات الدول المصدرة أو المتلقية لها ولتأثيرها في قوى النمو الاقتصادي.
وبالتالي، فإن تدفق الأموال من سوق إلى أخرى بغير هدى من هذه الحوكمة كفيل بحد ذاته بتكبد خسائر رأسمالية تنوء بحملها الاقتصادات المتقدمة، ناهيك طبعًا عن الاقتصادات النامية ذات الهشاشة المالية العالية. ولعل ما انتشر مؤخرًا من تقارير حول وجود مخالفات مالية ضخمة في المراكز المالية لشركات بعض من أثرى أثرياء العالم يدق ناقوس الخطر حول مدى جدوى الاستثمار في الأسواق المالية الدولية بوضعها الراهن.
وفي ظل أوضاع مالية كتلك التي يواجهها العالم حاليًا، فمن المهم التأكيد على أن الحوكمة المنشودة لرأس المال الدولي لا تحدث إلا عندما تُتاح إمكانية الوصول السريع والدقيق للمعلومات والتقارير المالية عن أنشطة الشركات المتعددة الجنسيات، وإذا ما توافرت وسائل تتبع ومراجعة وتقييم المعاملات المالية والامتثال الدولي لتدفقات رؤوس الأموال العابرة للحدود، وفي الوقت الذي يستطيع فيه أصحاب المصلحة، بمختلف جنسياتهم، التحقق من سلامة الأصول المالية المتداولة في البورصات الدولية. وعند توافر هذه الشروط مجتمعة -وعندها فقط- يمكن القول إننا إزاء منظومة مالية عالمية محوكمة وموثوقة، وإلا فإن هذه المنظومة ستشهد بين الحين والآخر حالات من الذعر المالي التي قد تضرب الاستقرار المالي الدولي في مقتل.
مركز تريندز للبحوث والاستشارات