الجامعة بصفتها مؤسسة ثقافية
لعلَّ من أكبر إشكاليَّات التعليم العالي في الوقت الراهن، الفصل بين التعليم والثقافة، وجَعْل الثقافة عملًا إضافيّاً لا يعني الطالب الجامعي في شيء، بينما الأصل أن الطالب في المستوى الجامعي قد دخل في صالون المثقفين (إنْ صحَّ التعبير)، ذلك أن المجتمع الجامعي يتيح له فرصة نادرة للقاء النُّخبة المثقفة في المجتمع والتعرُّف إليها، كما أن الجامعة تُهيئ له قنوات مفتوحة للوصول إلى مناهل الفكر والثقافة والرأي.
ومن أهم أدوار الجامعات تجسير الهوَّة بين التعليم والثقافة لدى الطلبة، وذلك عن طريق أمرين، أولهما تصميم برامج أكاديمية -برغم تكثيف مواد التخصص فيها- تشتمل على مواد دراسية لها طابع الثقافة العامة، وتفتح للطالب الجامعي أبواباً من التفكُّر في القضايا المختلفة، وتمدُّه بالأدوات الضرورية من المعارف والمهارات التي تساعده على النظر إلى مكونات المجتمع من خلال البُعدَين الثقافي والاجتماعي.
والأمر الثاني هو الأنشطة المتنوعة والفعاليات الثقافية المختلفة، ولا شك في أن ذلك كله يسهم في بناء شخصية متميزة لدى الطالب، قوامها الوعي الثقافي المستند إلى فَهْم عميق للمسؤولية الوطنية، ما يُمكِّنه من التفاعل مع الحراك الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
وربما يُعزى أبرز مُسبّبات هذا الفصل بين التعليم والثقافة في المستوى الجامعي إلى السباق المحموم للارتقاء في التصنيفات العالمية للجامعات، إذ تحوَّلت التصنيفات من كونها نتيجة إلى هدف تصغُر عنده بقيَّة الأهداف، وقد جعل هذا التغيُّر الكبير في التعامل مع التصنيفات تركيز جامعات عدَّة منصبّاً على هذا الهدف، كما وجدت جامعات أخرى نفسها مضطرة إلى التنازل عن كثير من ثقافتها التي أُسست عليها، ومن أبرز معالمها أن تكون منارة للثقافة والمعرفة، ومركز إشعاع للأدب والفن والإبداع، وتبحث عن المثقفين والمبدعين، وهم يبحثون عنها.
وعلى الجامعات أن تعي دورها الحقيقي، وتتشبَّث به، ذلك أن دورها الأهم هو أن تكون منارة للثقافة والفكر الإنساني بتنوعه وثرائه، وليس من المعقول أن تنكفئ على نفسها، وتُؤطِّر رسالتها في أدوار تعليمية ضيقة تجعل الجامعة، ذات الآفاق الرحبة، محصورة في فصول دراسية ومحاضرات منهجيَّة واختبارات، فذلك يضيّق آفاق العلم، ويحصرها في مناهج دراسية محضة، كما ينبغي أن تكون التجربة الجامعية واحدة من أهم التجارب ثراءً في حياة الإنسان، وأحد أهم مكونات شخصيته، ليست المهنية فحسب، بل الثقافية والاجتماعية أيضاً. وإن تهافُت بعض الجامعات على ملاءمة مخرجاتها مع سوق العمل، أفقدها الموازنة بين دورها الثقافي المهم في بناء شخصية الطالب المتكاملة، وتكوينه المهني واستعداده للولوج إلى سوق العمل، وقد جعل هذا التهافُت بعض الجامعات بمنزلة مراكز تدريب للشركات وسوق العمل لا أكثر. ولا شكَّ في أن تلبية متطلبات سوق العمل أمر بالغ الأهمية، وأن إعداد الطالب ليكون مؤهلاً لسوق العمل هو الذي يُكسِب الجامعة مكانتها في المجتمع حاليّاً، بيد أن ذلك يضغط على الجامعات من حيث نوعية التخصصات وتصميمها، وكذلك نواتج التعلم المتوقعة، فالموازنة بين الدورَين الريادي والفكري للجامعات، ومتطلبات سوق العمل، مهمة جدّاً.