القيادة والسياسة في عالم اليوم
في كتاب وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الذي صدر مؤخراً حول دور القيادة الشخصية في صناعة التاريخ، ستُّ دراسات حول شخصيات استثنائية يعتبر أن لمساتها الشخصية كانت حاسمة في توجيه مجرى الأحداث.
من بين هذه الشخصيات الجنرال ديغول الذي حرر بلادَه من الاجتياح الألماني وبنى الدولةَ الحديثة فيها، والمستشار الألماني الأسبق كونراد أديناور الذي حول ألمانيا الغربية إلى محور للبناء الأوروبي وقاطرة التنمية والتطور فيه، ورئيسة الحكومة البريطانية السابقة مرغريت تاتشر التي غيّرت نوعياً وجهَ بلادها، والزعيم السنغافوري لي كوان يو صانع المعجزة الاقتصادية والتنموية في هذا البلد الآسيوي الصغير، والرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي فاجأ العالَم بزيارته للقدس وتوقيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل.
الكتاب الذي هو في الآن نفسه نمط من المذكرات الشخصية للمفكر البارز الذي سيصل عمرُه المئةَ قريباً، يعتبر أن هذه القيادات الاستثنائية تجمع بين القدرة الفائقة على قراءة الماضي موضوعياً وبعمق وجرأة استباق الأحداث وشجاعة الموقف المستقبلي.
أهمية هذا الكتاب تكمن في أن الرأي الشائع في أيامنا هذه هو غياب القيادات الكبرى والزعامات الملهمة في إدارة شؤون العالم، سواء تعلق الأمر بالغرب الليبرالي أو بدول الجنوب التي ما تزال تعيش محنَ التاريخ من حروب وفتن أهلية وصراعات داخلية مزمنة.
ومن هذا المنظور، عادة ما تتم المقارنة بين قادة الدول الحاليين، الذين هم في أغلبيتهم موظفون إداريون وصلوا إلى السلطة عن طريق الصدفة، وبين الزعماء الكبار الذين عرفَهم القرنُ العشرون. لا أحد ينكر دور قادة متميزين من نوع تشرشل وديغول وروزفلت في الغرب، وستالين وماو تستونغ وجواهر لال نهرو في الشرق، أما زعماء العرب وأفريقيا المعاصرين من قادة حركات التحرر وبناة الدول الحديثة فلا يحتاجون إلى الذكر.
إن غرضنا حالياً محصور في قيادات العالم الليبرالي الديمقراطي، باعتبار أن المشكل المطروح يتعلق بمشروعية ونجاعة المؤهلات القيادية الشخصية في بلدان تحكمها مؤسسات عمومية ثابتة وقوانين محكمة، على عكس بلدان العالم الثالث التي ما تزال تضبطها إلى حد بعيد الشرعيةُ الكاريزماتية وليس النظم العقلانية البيروقراطية وفق تعبيرات عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر. يتناول الفيلسوف الفرنسي ألان رينولت هذه المسألة في كتابه «نهاية السلطة»، منطلِقاً من كون الديمقراطية الانتخابية لم تعد في الدول الغربية قادرةً على حسم معضلة الشرعية السياسية.
وفي عموم هذه البلدان نشاهد عزوفَ الناخب عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، كما نعيش انهيار الأحزاب والتنظيمات السياسية الكبرى وصعود الزعامات الشعبوية على حساب المؤسسات العمومية التي هي مرتكزات الدولة الديمقراطية.
يلاحظ رينولت أن هذه الظاهرة تعيد الاعتبار لثنائية الخبير والقائد التي كان من المفترض أن تختفي مع تطور الممارسات الديمقراطية. الخبير هو الذي يتمتع بسلطة المعرفة والعلم فيحول طريقة إدارة الشأن العام إلى ممارسة تقنية متخصصة تستند إلى محض الخبرة والكفاءة التكوينية، والقائد هو الشخصية الملهمة القادرة على التماهي مباشرةً مع شعبه دون الحاجة إلى الوسائط المؤسسية ودوائر الاختيار والمنافسة التعددية.
من الأمثلة الواضحة على هذه التحولات: الخبير المصرفي المالي الشاب الذي هزم السياسيين المحترفين في فرنسا (إيمانويل ماكرون)، ورجل الأعمال صاحب الكاريزما الذي نفذ للسلطة من خارج مسارات التصفية السياسية والحزبية في الولايات المتحدة الأميركية (دونالد ترامب). ويلاحظ كيسنجر أن المؤهلات القيادية الكبرى لا تبدو إلا في المنعرجات الحاسمة في التاريخ التي تتطلب قرارات شجاعة وجريئة.
وفي مجتمعات تَدّعي أنها خرجت من التاريخ وأصبحت تحكمها نظم تقنية وإدارية ثابتة لا تتغير، لا تبدو الحاجة إلى الزعماء القياديين مطروحة. بيد أن الشرعية القانونية الإجرائية لم تنجح في احتواء الفعل السياسي الذي ما يزال عصياً على منطق الاختزال التقني أو الفني. ومن هنا يبدو أن نموذج القائد أصبح حاجةً ملحةً في الساحة الدولية حتى في المجتمعات الديمقراطية المستقرة.
لقد كشفت الأحداث الأخيرة من الأزمة المالية العالمية وجائحة كورونا انتهاءً بالحرب الأوكرانية الحالية، أن منطق السياسة التي هي فن القرار الحاسم لم يتغير، وإن تبدلت أدواتُها الإجرائية ومرتكزاتها المؤسسية، وازداد فيها دور الخبير المتخصص والموظف البيروقراطي. الزعيم في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية ليس نمطاً من القائد الثوري أو الرمز المقدس، لكنه يتمتع بميزات شخصية استثنائية تؤهله لحكم البشر واتخاذ القرارات المناسبة في ساعات الحسم الكبرى، وتلك ميزات تختلف عن الخبير الحاكم أو السياسي الحزبي المحترف.
*أكاديمي موريتاني