في ظلال اليوم العالمي للغة العربية
يأتي اليوم العالمي للغة العربية، الموافق 18 ديسمبر من كل عامٍ، للاحتفاء بلغة الضاد، أو بالأحرى لإعادة الاعتبار إليها، فقد كانت لغة العلم والثقافة ردحاً من الزمن، ويتحدث بها أكثر من 500 مليون نسمة، ما يجعلها من بين اللغات الخمس الأولى في العالم من حيث عدد المتكلمين. دون الحديث عن تأثيرها في ثقافة أكثر من 1.3 مليار مسلم من غير العرب، وفي غيرها من اللغات الحية. ولكن اللغة العربية تختبر محنةً كبيرة في الوقت الحاضر.
فثمة إهمال جسيم للعربية من جانب أهلها، الذّين في مشاعرهم ازدواجية تجاه لغتهم، فهم يحبونها ويتعلقون بها، ولكن لا يهتمون بها حتى على مستوى تعليم أبنائهم بها. كما تُعاني «العربية» نفسها من الازوداجية، ما بين «فصحى» وعامّية أو بالأحرى عامّيات، ويطغى استعمال الأخيرة بشكلٍ كبير على الأولى.
ورغم أن الفصحى هي اللغة الرسمية في كل البلدان العربية، فهي ليست اللغة الأولى لبعض العرب في يومنا هذا، بل تُعتَبر اللهجة العامّية الخاصّة بكل دولة (أو كلّ منطقة) هي اللغة الأولى الي يكتسبها الطفل في المنزل، قبل أن يتعلم الفصحى كلغة ثانية، إن جاز التعبير، ويُلقَّنَها في المدرسة.
ورغم أن أصل كل هذه اللهجات يعود إلى اللغة العربية، إلا أنّ الشائع جداً ألا يفهم بعض العرب البعض. وثمة تراجع لـ«الفصحى» وانكماشها في مجالات التعليم والإعلام والإدارة والاقتصاد والأعمال، وعدم الاهتمام الجادّ بتمكينها وتطويرها، مقابل اهتمام متزايد بتعلّم لغات أجنبية، وإحياء لغوي وبعث ثقافي في المجتمعات غير العربية مثل الأكراد والأمازيغ والآشوريين والأرمن والطوارق والنوبيين وغيرهم.
كما أثرت العولمة اللغوية تأثيراً سلبياً على بنيان العربية، لدرجة أنّ البعض يكاد يعاملونها اليوم على أنها لغة ميتة واقعياً، وبرزت لهجة «الفرانكو أراب» في الواقع الافتراضي ولدى الأجيال الحالية. كما أنّ البيانات العلمية المتاحة على الإنترنت بالعربية قليلة، والفجوة الرقمية بين العالم الأول والعالم العربي واسعةً. وعلى الرغم من شيوع نظرة تشاؤمية لواقع اللغة العربية ومستقبلها، فإنّ الحديث عن لغتنا هو حديث مرتبط بالأمل، وليس باليأس.
فلا أحد ينكر أنّ العربية الفصحى تبقى أكثر اللغات القديمة الحية صموداً واستمراريةً، إذا ما قارنّاها باللغات القديمة الأخرى.
ولا تزال اللغة العربية تحظى بمكانة جيدة بعيدًا عن خطر الاندثار، بل يُنظر إليها على أنّها من لغات المستقبل بعد الصينية والإسبانية والإنجليزية. كما أنّ للغة العربية إمكانات استثمار مثاليةً، ولا سيما في الغرب، فهي من أكثر اللغات الأجنبية تعلماً في الولايات المتحدة، وتأتي ثانياً، بعد الإسبانية، ضمن اللغات العشر التي حدّدت الدراسات حاجة المملكة المتحدة إليها في العقدين المقبلين.
علاوة على ذلك، فإنّ ارتباط اللغة العربية بالإسلام، عقيدةً وشريعةً وتراثاً وحضارةً، يُعطيها إمكانات هائلة لأن تكون إحدى أدوات القوة الناعمة للدول العربية. وإن لم تبق اللغة العربية الفصحى مستعملة على نطاقٍ واسع وجماهيري، فإنها تستمرّ وطناً روحياً للعرب. ومن دواعي الأمل في لغة الضاد أنّها قوية البناء الداخلي، راسخة الجذور، خبرت أزمات التاريخ، واجتازتها.
*خبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية