أوروبا.. ونهاية الحلم
في حديث مع وزير خارجية من إحدى الدول الأوروبية الأساسية حول الصراع الأوكراني الحالي، اعتبر محاوري أن شبح التفكك والانهيار يحوم راهناً حول القارة الأوروبية وينذر بنهاية حقبة السلم والازدهار التي عرفتها المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لم يتردد عدد من قادة الدول الأوروبية مؤخراً في إعلان نهاية عهد الرفاهية والوفرة في بلدانهم، بعد أن أصبحت مواردُ الطاقة الرخيصة مهددةً، وبعد أن غدت فظائعُ الحرب في قلب القارة وتهدد أبعدها عن ساحة المعركة.
المفكر السياسي الفرنسي «جاك أتالي» ذهب بعيداً في استشرافه المتشائم، إلى حد التحذير من انهيار الاتحاد الأوروبي ونهاية العملة الأوروبية الموحدة واندلاع حرب جديدة بين ألمانيا وفرنسا. قد لا نتفق مع أتالي في نزعته المتشائمة، إلا أن الحقيقةَ التي لا مراء فيها، هي أن الدول الثلاث المحورية في القارة، وهي بريطانيا وألمانيا وفرنسا، تعاني راهناً من أزمات داخلية اقتصادية وسياسية واستراتيجية معقدة، لها بدون شك انعكاسها على تركيبة وتوازنات المجال الأوروبي.
لنبدأ ببريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي سنة 2016، بعد أن كانت قد خرجت في القرن الثامن عشر من المعادلة الأوروبية الكلاسيكية بالتوجه إلى غزو البحار والسيطرة على قنوات ومعابر التجارة الدولية، وخرجت للمرة الثانية من جيبولتيكا القارة بعد الحرب العالمية الثانية مكرسةً التحالف العضوي مع الولايات المتحدة الأميركية.
تعيش بريطانيا الآن أزمةً داخليةً معقدةً على إثر البريكست الذي انعكس سلباً على الوضع الاقتصادي، لارتباط الاقتصاد البريطاني عضوياً بالشراكة الأوروبية، كما انعكس سلباً على طبيعة ووحدة المملكة المتحدة بتجدد الميول الاستقلالية في استكلندا وإيرلندا الشمالية. لم ينجح خيار «بريطانيا العالمية» global Britain الذي بلوره رئيس الحكومة الأسبق «بوريس جونسن» من أجل إعادة تصور القوة الاستراتيجية البريطانية في إيجاد بديل للخيار الأوروبي بالتوسع آسيوياً وعبر مجال المحيطين الهندي والهادئ.
وقد شاعت في لندن مؤخراً النكتةُ التي تردد أن رئيسة الحكومة المستقيلة «ليز تراس» غادرت قاعةَ الحكم بعد أن دفنت في أربعين يوماً فقط الملكة والجنيه الاسترليني وحزب المحافظين. أما ألمانيا التي خرجت منهكةً ومحطمة بعد حربين عالميتين تسببت فيهما، فتعيش راهناً انهيار نموذجها الاقتصادي الاستراتيجي الذي سمح لها بأن تكون قائدةَ قاطرةِ التوسعِ الأوروبي في الثلاثين عاماً الأخيرة.
لقد قام هذا النموذج على ثلاث مرتكزات هي: النفط الروسي القريب والرخيص، والأسواق الصينية، والحماية الأطلسية الأميركية. ومما لا جدال فيه أن هذه المرتكزات مكّنت ألمانيا من بناء شراكة قوية مع فرنسا لقيادة الاتحاد الأوروبي، بيد أنها في طور افتقادها لريادتها الاقتصادية، وتجد نفسها في ورطة متزايدة ناتجة عن استفحال الصراع بين دائرة شراكتها الاقتصادية (روسيا والصين) ودائرة شراكتها الاستراتيجية (الولايات المتحدة الأميركية).
أما فرنسا التي سارعت منذ الخمسينيات إلى تنبني الخيار الأوروبي مسلكاً ثالثاً في الصراع القطبي الدولي، ورعت بعد نهاية الحرب الباردة مشروع الاندماج الأوروبي الموسع بديلا عن المظلة الاستراتيجية الأميركية، فتجد نفسَها اليومَ في موقف ضعف متزايد ناتج عن انتكاسة المشروع الأوروبي وتجدد الصراع الدولي على الساحة الأوروبية، وتفكك الرابطة الثنائية الخاصة بين فرنسا وألمانيا. بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تراجعت الآمال الفرنسية في بناء منظومة الدفاع الأوروبية المشتركة وتوحيد النسق الاقتصادي الأوروبي الذي كان من المفروض أن يتلازم مع الوحدة النقدية.
بل إن الأحزاب السياسية المناهضة للاندماج الأوروبي تزايدَ نفوذُها حتى في فرنسا حيث تحول حزب «التجمع الوطني» اليميني المتشدد إلى القوة المعارضة الأولى في البرلمان واستطاعت مرشحتُه «مارين لبان» المنافسةَ في الشوط الأخير للانتخابات الرئاسية للمرة الثانية.
ومن الواضح اليوم أن النخب السياسية الأوروبية تتأرجح بين موقفين متعارضين: إما الدمج بين دائرة الاتحاد الموسع والمظلة الأطلسية لحماية أمن القارة المهدَّد بالخطر الروسي ولو اقتضى الأمر التضحية بأفكار السيادة الاستراتيجية والدفاع الإقليمي المشترك، أو الانحياز لروسيا بصفتها القوة الأوروبية الكبرى الحامية للنسيج العقدي والحضاري الغربي الأصلي في مواجهة خطاب العولمة الأميركية، كما هو اتجاه الأحزاب اليمينية المحافظة الحاكمة في عدد من الدول الأوروبية كما هو شأن هنغاريا.
قبل سنوات، كتب الفيلسوف الألماني «بيتر سلوتردايك» أن أوروبا تحولت إلى ناد للعجزة الأغنياء المرفَّهين، وهؤلاء لا شأن لهم بالحرب والقتال والعنف. ومن هنا صدمة الحرب الأوكرانية التي أعادت أوروبا إلى مأساة التاريخ.
*أكاديمي موريتاني