أوضاع الاقتصاد.. توقعات معكوسة
من غير الممكن أن يستمر الاقتصاد على هذا المنوال إلى الأبد. ربما ما زال الناتج المحلي الإجمالي ينمو، لكن بمعدل ضعيف. وتتراكم المؤشرات الأخرى التي تشير إلى أن الركود وشيك: منحنى العائد ينعكس، بينما يتباطأ معدل التوظيف، وكذلك أسعار المنازل.
إذا اتبعت التعليقات المالية، فيبدو أننا على وشك الوصول إلى نقطة الانعطاف، تلك اللحظة التي يتحول فيها الاقتصاد وندخل في حالة ركود، حيث ينهار سوق الأسهم، وينكمش التضخم، ويفقد الناسُ الوظائفَ وتتراجع أسعار المساكن. لكن إذا كان هناك شيء واحد استمر صحيحاً خلال العامين الماضيين، فهو أن ما كان يتوقعه الجميع باستمرار تبين أنه خطأ. وهذا لأننا في منطقة مجهولة. لم نقم من قبل بإيقاف الاقتصاد، ثم أعدناه مرة أخرى كما فعلنا أثناء الجائحة.
خذ، على سبيل المثال، ارتفاع التضخم، وهو ظاهرة لم يشهدها الاقتصاد الأميركي منذ 40 عاماً. أظهر الرسم البياني الذي رسمه تورستن سلوك، كبير الاقتصاديين في شركة «أبولو جلوبال مانجمينت»، أن الجميع كان مخطئاً باستمرار بشأن التضخم وما زال يخطئ في فهمه. يبدو أنه في كل شهر تتنبأ التوقعات بأن هذا هو الشهر الذي تصل فيه نقطة التحول، وأن التضخم في الشهر المقبل سيبدأ في الانخفاض السريع إلى المستويات الطبيعية. لكن التضخم يرتفع كل شهر أو يظل كما هو.
ولكي نكون منصفين، كانت حرب أوكرانيا غير متوقعة، وقد جعلت التضخم يزداد سوءاً. لكن التفاؤل الذي لا أساس له مستمر شهراً بعد شهر، على الرغم من أن السيطرة على التضخم قد تستغرق سنوات. لماذا يخطئ الجميع ولا يتعلمون من أخطائهم؟ قد يكون الأمر مجرد أنه مر وقت طويل منذ أن عانينا من التضخم لدرجة أن الناس لا يعرفون ما يمكن توقعه، ويفترضون أن «الطبيعي» المألوف سيعود قريباً. قد يأمل الاحتياطي الفيدرالي أيضاً أنه إذا قالوا بأن التضخم سينخفض الشهر المقبل، فإن السوق سيصدق ذلك، وسيحدث ذلك بالفعل.
قد يكون الأمر فقط أن النماذج والبيانات القديمة لا تتناسب مع البيئة الحالية، ولا تزال لا تخبرنا بالحقيقة. يحدث التضخم اليوم بسبب عوامل عدة، لم نتعامل مع العديد منها سابقاً: الطلب المكبوت بسبب الوباء، واضطرابات سلاسل التوريد، وسياسة التيسير النقدي بشكل استثنائي، والكثير من التحفيز الحكومي. هذا ليس التضخم الذي كان يحدث في الماضي. هذا لا يعني أن السياسة النقدية لن تعمل على كبح جماحه، لكنها قد تستغرق وقتاً أطول ومعدلات أعلى مما يتوقعه أي نموذج.
في الماضي، كان الأمر يتطلب في كثير من الأحيان حدوثَ ركود لخفض التضخم بسرعة. ويبدو أن هذا ما سيحدث في أي يوم الآن أيضاً. لكن لم يخبر أحدٌ الأسرَ الأميركيةَ التي لا تزال تنفق الأموال بهذا الأمر. قد يكون هذا بسبب وجودها أيضاً في وضع غير معتاد. وعلى الرغم من ارتفاع التضخم، لا يزال لديها أموال في البنك. وتُظهر البيانات من بنك «تشيس» أن أرصدة الحسابات الجارية أعلى من مستويات ما قبل الجائحة بالنسبة لجميع مستويات الدخل، نتيجة عدم شراء أي شيء لمدة عام والكثير من الإعانات الحكومية. ومع تفوق التضخم على نمو الأجور، لا يمكن أن يستمر ذلك إلى الأبد. قد تكون أرصدة البنوك أعلى من المعتاد، لكنها آخذة في الانخفاض. في الوقت الحالي، على الرغم من أن الإنفاق يدعم الاقتصاد، لا تزال الأرباح جيدة نسبياً، وبينما يتباطأ معدل التوظيف، لا تزال فرص العمل أعلى بكثير من مستويات الوباء.
ولن ينهار سوق الإسكان بالضرورة أيضاً. نمو الأسعار آخذ في الانخفاض، لكنه لا يزال بعيداً عن الانخفاض الملحوظ في الأسعار. وربما لن تحدث انخفاضات. كثير من الناس لديهم قروض عقارية ذات معدل فائدة ثابت أقل من 3.5%. هذا يعني أنه حتى إذا أدى ارتفاع المعدلات إلى تراجع الطلب، فقد يظل العرض مقيداً لأن العديد من الناس لا يستطيعون تحمل تكاليف الانتقال إلى مسكن آخر، لذا قد تنخفض الأسعار في بعض المناطق، لكنها لن تكون بالمعدل الذي يتوقعه الناس.
هذه أوقات غريبة، ما يعني أن آخر 30 عاماً من البيانات، ربما حتى آخر 50 عاماً- لا تقدم صورة واضحة. قد لا تخبرنا المؤشرات العادية كثيراً عن أي شيء على الإطلاق. حتى منحنى العائد المعكوس الموثوق الذي من المفترض أن يتنبأ بالركود قد يكون أقل موثوقية بعد سنوات من التيسير الكمي التي أعقبها تشديد كمي.
ربما سيستمر كل شيء في التباطؤ، لكن من دون أي انعكاسات مفاجئة. سيكون لدينا نمو منخفض خلال السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة، وسينخفض التضخم، ثم يرتفع، ثم يستقر عند مستوى أقل من الآن ولكنه أعلى مما اعتدنا عليه.
وربما لن ينخفض الطلب فجأة، لأن الاحتياطي الفيدرالي متردد للغاية، بحيث لا يستطيع رفع أسعار الفائدة بما يكفي والإبقاء عليها مرتفعةً. وبدلاً من ذلك، سيتقلص الإنفاق ببطء لأن التضخم يستنزف القدرةَ الشرائية، ويؤدي إلى تآكل المدخرات. سيستمر الناس في شراء بعض الأشياء، وقد تقوم الشركات بخفض معدلات التوظيف، لكنها لن تقوم بتسريح العاملين. وفي الوقت نفسه، لن تتمكن السياسة المالية من تحقيق الكثير من الفوائد لأن أسعار الفائدة المرتفعة ستمنع الحكومةَ من زيادة الإنفاق أو خفض الضرائب.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست نيوز سنديكيت»