الحداثة.. نموذج أم تجربة؟
ضربت الحداثة عصب الأيدولوجية الزاهية التي تتكئ عليها الجماعات السياسية ذات الشعارات الإسلامية والدينية بشكل عام، فخلصت لإشكاليات متنافرة في سبيل إثبات الشرعية الفكرية والسلطوية من جهة، وجريان التحول الواقعي من جهة أخرى.
امتدت سلسلة الإقناع من قبل جماعات الإسلام السياسي منذ وقت طويل في سبيل الحصول على شرعية سلطوية مشحونة بكم كبير من التأييد العاطفي القائم على الانتصار لمبادئهم التي لطالما تختبئ وراء الشعارات الدينية، رغم اتساع حيز المصالح الفردية، والتي تتعدى كونها ذات هدف إسلامي بحت. وأما فيما يتعلق بالحداثة، فقد تعددت الاتجاهات الفكرية «الإسلامسياسية» في موقفها إزاء الحداثة وتعددت بين الرفض التام، والقبول التام، والتوفيق.
وفي النظر للتعريفات التي فسرت الحداثة من وجهة نظر إسلامية، فقد ذهب أحدها للقول بأنها الصياغة الحديثة الدافعة بتفعيل المبادئ العليا التي تصون كرامة الإنسان، وتحترم خصوصياته، ولا تتجاوز ثوابته الإسلامية أو تتعدى عليها. كما رآها آخرون من المفكرين الإسلاميين، أنها عبارة عن ثقافة، وفلسفة مستقاة من النموذج الغربي، ومتأثرة بمكنوناته وميزاته المرجحة للعقل على دونه، والمؤمنة بالمادية والفردية، وهجران التراث، والنازعة نحو التحرر من كافة القيود، أو ما أسمته «قيوداً». كما وفق آخرون بتعاريف متأثرة نوعاً ما بالعلمانية، بين معطيات الحداثة الغربية من جهة وثوابت المسلمين من جهة، إذ يتحرك الإنسان في واقعه بمعزل عن الدين، ويلتقي معه في «العقل» باعتباره مركز العقائد.
ورغم ما نتج عن الفلسفة الغربية من انتصار للمادية بشكل كبير، إلا أن هناك العديد من الفلاسفة والمفكرين ذهبوا لما هو أبعد من ذلك في التوفيق المتوازن، فعرّف «يورغان هابرماس» الحداثة بأنها: «لحظة السيرورة التي تنتج من علاقة الحديث بالقديم وتسعى إلى عقلنته وأنسنته، لذلك هي تبقى مشروعاً يحاول إنجاز ذاته بتكرار»، فلا يكون الفصل والقطيعة بين ماضي الإنسان وحاضره دائماً عند الهرولة وراء الحداثة، بل يكون من خلال التفوق علي الأخطاء القديمة، تقييماً وتقويماً واستبدالاً.
وهذا ما لم يره أصحاب الاتجاه الرافض للحداثة برمتها، على اعتبار الحداثة «غزواً غربياً» بحتاً، وبخاصة أن موقفهم الصريح يدعو لصون الأنماط والأنساق والسلوكيات الإسلامية الأصيلة، باعتبارها فيصلاً وصمام أمان يحافظ على المجتمع الإسلامي، ومن ذلك فقد ابتدأت بالرفض كموقف لكل ما يمس بالتراث، أو يحاول تصحيح قراءاته، رفضاً لأي طابع غربي، آليات سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة، وتمثل هذه الآراء مثالاِ حياً ونابضاً لتناول التجربة الحداثية الغربية من قبيل تجربة أو نموذج زماني لا قيمي سلوكي.
والعصي تناوله في ذات السياق المخالفات السلوكية الصريحة لكثير من أتباع هذه الفكرة عند المواجهة الواقعية الفعلية، فالتقعيد والتنظير يرفض الحداثة، ولكن الممارسات السياسية تنتهجها، مما يشكل التباساً بين الموقف والخطاب، يولد إشكاليات جديدة في قراءة الحداثة.
تتمركز جل الإشكاليات في خطاب الحداثة وتناوله ضمن سياق الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، من عدم الوصول للتوازن المثالي بين فكرة القطيعة والتوفيق، ففي حين أن هناك العديد من العوائق الفكرية التي تحول دون هضم التجربة الغربية دفعة واحدة، إلا أن معظم الاتجاهات التي استلهمت الحداثة، وصانت القداسة وجدت مسارات متعددة لتطبيق ذلك على أرض الواقع، واقع التطوير والنهضة والتغيير، وبخاصة في سياق استيعاب ضرورة تجديد البنى الفكرية، وتطوير التجربة القيمية الأخلاقية، وعدم الترفع عن المبادئ العالمية المشتركة بين بنى البشر، وذلك لا يكون إلا من خلال «تمهيد» وتوطئة فكرية ثقافية سيكولوجية يتبعها حداثة.
ومن ذلك فإننا نستطيع القول بأن إشكالية العقل العربي التي تمنعه من قراءة الحداثة قراءة صحيحة، ما يعبق بها من متعلقات في القضايا الفكرية والسياسية التي تقطع على مشروع الحداثة استمراره، أضف إلى ذلك «عقدة» الفهم، وصعوبة التفريق التي وقع ضحيتها العديد من المفكرين، فالحداثة شكلت حاجةً ماسة في قلب المجتمعات العربية الإسلامية، بمعنى «أسلمة الحداثة»، وليس «تحديث الإسلام» وتغيير ثوابته، سيما أن الإنسان المسلم لا ينقطع عن الاجتهاد والمثابرة للوصول لتحقيق مقاصد الشرع، وهذا لا يعني البتة تلقف الحداثة من الغرب كـ«سلعة مستوردة».
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة