ماذا سيقولون عنا في عام 2122؟
كنتُ في طريقي إلى مبنى المحكمة حين سلكتُ طريقاً فرعياً يتقاطع مع طريق فرعي آخر واقع بين عدد من العمارات السكنية، وأخذتْ حركة السير تتباطأ تدريجياً نتيجة إصرار السائقين على أولوية المرور، وفي الأثناء تلاقت عيناي بعيني سائقٍ إلى جواري، فقال وهو يرفع صوته: «الناسُ جُنّت!»، فأومأتُ برأسي موافقاً، وتقدمت بضعة أمتار.
وبقيتُ أتساءل: لِمَ قالَ الناس جُنّت، ولَمْ يقل الناس مجانين؟ فـ«الناس جُنّت» تعني أنهم كانوا عقلاء وصاروا الآن مجانين، أما «الناس مجانين»، فتعني أن صفة الجنون ملازمة للبشر، سواء مَنْ التقينا بهم في الشارع توّاً، أو مَنْ عاشوا على هذه الأرض قبل سبعة آلاف سنة.
وحين ترجلتُ مِن سيارتي أسفل بناية قريبة من المحكمة، وجدتُ رجلاً يقف بعدائية خلف إحدى السيارات، وكان يبدو عليه أنه ركل السيارة برجله أو أنه ينوي فعل ذلك، وكان يتحدث بحدّة عبر هاتفه المحمول، وعرفتُ من كلامه أن أحدهم أوقف سيارته خلف سيارته بشكل يعيقها عن الخروج، وسمعته يقول: «الناس ما عادت تستحي!».
وقلتُ في نفسي في مصعد المحكمة: كلامه مثل كلام السائق، فالناس لَمْ تعد تشعر بالحياء، وليس الناس لا تشعر بالحياء، فثمة فارق بين العبارتين، إذ الأولى تعني أنهم كانوا يشعرون بالحياء بالأمس ولم يعودوا كذلك اليوم، بينما الثانية تعني أنّ الناس لا تشعر بالحياء اليوم أو بالأمس.
وفي قاعة محكمة الجنايات، سألني الزميل الذي يجلس إلى جانبي عن القضية التي سأترافع عنها، فقلتُ له إنني منتدبٌ من المحكمة للدفاع عن متهمٍ بالقتل، فقال وهو ينفخ خديه: «أعوذ بالله!»، ثم أردف وهو يهزّ رأس الأسى: «البشر توحّشُوا!»، لكن دخول القضاة إلى القاعة قطع حوارنا، إذ كنتُ أريد أن أعقّب بالقول: ومتى لم يكونوا وحوشاً؟!
ونحن حين نقول «الزمن الجميل» فلا نقصد درجات الحرارة في الماضي، ونسب الرطوبة، وكمية الأمطار، وثمار الأشجار، وأسماك البحار، ونجوم السماء، وإنما نقصد أنّ الزمن كان جميلاً بأهله، وبأخلاقهم، وبسلوكهم، وبعاداتهم، وبآدابهم، وبأفكارهم، وبقيمهم، وبالصواب والخطأ في نظرهم.. ولا يمكن أن نعرف كل هذا إلا إذا كنا منهم.
ونحن حين نقارن بين اثنين، يفترض معه أن نعرف الثاني بالقدر نفسه الذي نعرف فيه الأول، وإلا كانت المقارنة غير دقيقة.. فكيف نقارن بين جيلٍ من الناس لسنا منهم، ومن ثم لا نعرف كل شيء عنهم، بجيلٍ نحن منهم، ونعرف كل شيء عنهم؟
وفي العام 2122 قد تسير مواكب للعزاء ترفع رايات سوداً مكتوباً عليها: «سقى الله أيام الزمن الجميل!»، وأشخاص يذرفون الدموع على تصوّراتهم الخاطئة عن الماضي، أي يومنا هذا الذي يذرف فيه بعض الناس الدموع على زمن مَن جاؤوا قبلنا، ففي كل زمن ثمة ثلّة مِن الموهومين بالماضي، والناقمين على الحاضر، لا يرون الجمال مِن حولهم.
الزمن يكون جميلاً بناسه، وليس بأي شيء آخر، والناس لم يكونوا أكثر جمالاً في زمن دون زمن، وفي عصر دون عصر، ليكون زمن هؤلاء أكثر جمالاً مِن زمن غيرهم، لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل، ولا جديد تحت الشمس كما يُقال.
* كاتب إماراتي