تداعي المقاطعة
تتداعى يوماً بعد آخر المقاطعةُ الغربيةُ لروسيا، والتي فرضت مع بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وذلك لأسباب عديدة سبق وأن أشرنا إليها في هذه الزاوية عند بداية الحرب، مذكِّرين بأن «العالم بحاجة لروسيا أكثر مما هي بحاجة إليه». والأمر لا يتعلق هنا بحتمية اتخاذ موقف معين، فموقف دول مجلس التعاون الخليجي المتزن والمعروف هو الحياد وبذل كل جهد ممكن لإيجاد حل سلمي للأزمة الأوكرانية.
أما القناعة بفشل المقاطعة فبُنيت منذ البداية على أسس موضوعية محايدة تتعلق بإمكانيات وقدرات كل من الدول الغربية وروسيا الاتحادية التي حققت مكاسب لا تحصى في ظل المقاطعة. وفي مقدمة هذه المكاسب يأتي ارتفاع سعر صرف الروبل تجاه العملات الأخرى بنسبة كبيرة بلغت 135% خلال خمسة أشهر ليصل إلى 60 روبلا للدولار، مما استدعى تدخل المصرف المركزي الروسي لوقف ارتفاع العملة الروسية، وهو عكس ما كانت ترمي إليه المقاطعة الغربية الهادفة إلى إضعاف الروبل، علماً بأنه هبط إلى أدنى مستوى له في شهر مارس الماضي بعد وصول سعره تجاه الدولار 150 روبلا.
أما باقي أوجه المقاطعة فتمكن الإشارة إلى تداعيها من خلال الإجراءات الأوروبية التالية، إذ أشار تقرير لـ«دوتشيه فيله» الألماني إلى أن دعم عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا يتناقص بسبب التضخم، في حين أشارت «ذا اكونوميست تايمز» إلى أن وقف تدفقات الغاز الروسي في منطقة اليورو سيؤدي إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 3.4% ويرفع التضخم بمقدار 2.7%. لذا، وضمن إجراءات التراجع، قرّر الاتحاد الأوروبي الإفراج عن أموال المصارف الروسية لدعم تجارة المواد الغذائية والطاقة، كما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن الاتحاد الأوروبي لن يدرج شركةَ «افيسما» الروسيةَ على قائمة العقوبات بسبب معارضة فرنسا، حيث تعتبر «أفيسما» أكبر منتج للتيتانيوم في العالَم، وهي مورد مهم للتيتانيو لشركة «ايرباص» لصناعة الطائرات. وهذا ما دفع رئيس الوزراء المجري «فيكتور أوربان» للقول بأن «الاتحاد الأوروبي يحتاج استراتيجيةً جديدةً بشأن الحرب في أوكرانيا.. فالعقوباتُ المفروضةُ على روسيا لم تنجح».
أما على الجانب الأميركي، فقد ذكرت شبكة «سي أن بي سي» الأسبوع الماضي أن الاقتصاد الأميركي «انكمش بنسبة 0.9% في الربع الثاني ودخل مرحلة الركود»، هذا إلى جانب التضخم غير المسبوق، حيث سيؤدي تزامن هذين العاملين إلى تعرض الاقتصاد الأميركي للركود التضخمي.
في المقابل تتأقلم روسيا مع العقوبات بصورة مريحة، فبالإضافة إلى ارتفاع عملتها الوطنية، فقد ارتفع إنتاج النفط الروسي إلى 10.78 مليون برميل يومياً في شهر يوليو الماضي، وفق «بلومبيرغ»، إذ سرعان ما وجدت صادراتُ النفط الروسية المقاطعَةُ أوروبياً طريقَها للأسواق العالمية، وبالأخص الآسيوية، تاركةً أوروبا تدور في أزمة طاقة خطيرة، حيث دعت ألمانيا التي تزعزعت مكانتُها الأوروبية، بسبب أزمة الطاقة، مواطنيها للاستحمام بالماء البارد، في حين تعاني شركاتها ومؤسساتها من صعوبات قد تؤدِّي ببعضها إلى الإفلاس، وهو ما دعا الحكومة إلى تقديم خطة إنقاذ بقيمة 15.2 مليار دولار لشركة «يونيبر» الألمانية المستورِدةِ للغاز الروسي، حيث تعد هذه الشركة أكبر ضحية لأزمة الطاقة في أوروبا.
ما تقدم يعتبر مجردَ أمثلة لتداعي المقاطعة الغربية والتي يتوقع أن تتراجع بنسبة كبيرة مع حلول فصل الشتاء القادم لحاجة أوروبا لمصادر الطاقة والمعادن الروسية التي لا بديل ولا غنى عنها، في الوقت الذي فشل فيه الإعلام الغربي في تسويق أسباب المقاطعة.
وهنا تطرح التساؤلات الخاصة بالبديل لحل الأزمة التي تعصف بالاقتصاد العالمي وتسير به نحو الهاوية، حيث تمكن العودةُ للدعوات المتكررة من أطراف دولية، وبالأخص الخليجية منها، لمعالجة الأزمة وحلها سلمياً، إذ يبدو أن القناعةَ بذلك تتزايد في الغرب، وهو ما سيفيد الاقتصادَ العالمي ككل.
*خبير ومستشار اقتصادي