التحولات العالمية في المفاهيم والممارسات
إذا أردنا فهم الحاضر والاستعداد للمستقبل، فعلينا أولاً استيعاب الأحداث التاريخية المستندة إلى الحقائق بوقائعها وتفاصيلها.
وبقراءة تاريخية سريعة نجد أن العالم في القرن الأخير مَرّ بحربين عالميتين كبيرتين، وكوارث طبيعية عدَّة أبرزها وباء الإنفلونزا الإسبانية، وشهد كَبَوات اقتصادية مريرة، أُولاها الكساد العظيم بعد الحرب العالمية الأولى. وها هي البشرية بعد قرن من الزمان تعيد -فيما يبدو- المرور بالحلقات التاريخية نفسها، ولكنْ بشكل جديد.
ونقطة الاختلاف هنا تكمن في التطورات التكنولوجية الكبيرة التي وسَّعت آفاق المعرفة في مجتمعاتنا، فأصبح ممكناً استيعاب التجارب السابقة استيعاباً أفضل نسبيّاً، ولا شكَّ في أن امتلاك الخبرة الناتجة من تلك التجارب ينفع البشر حتمًا عندما تتكرَّر مرة أخرى، ولا سيَّما إذا كانت التحديات كبيرة، مثل جائحة كورونا، وتجاذبات الحرب الروسية-الأوكرانية، والحرب الاقتصادية التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، التي تتسم بطول الأمد والبرود أحياناً، ولكنها قابلة للاشتعال في أي وقت.
وقد أسهمت هذه التحديات إجمالاً في تغيير المشهد العالمي، الذي عرف استقراراً كبيراً في العقود الثلاثة الأخيرة، ولا سيَّما بعد نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في أوائل تسعينيات القرن الماضي. وتميزت هذه العقود الثلاثة بسمات أساسية يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
1. العولمة: أدَّت إلى زيادة كبيرة في حرية التجارة وانسيابها بين دول العالم، فازداد اعتماد بعض الدول على دول أخرى من دون اكتراث لكونها بعيدة أو قريبة.
2. التطور الكبير في التكنولوجيا والانتقال بقدرات الحواسيب إلى آفاق جديدة: غزت التكنولوجيا كل مناحي الحياة، وسيطرت على جميع الأنشطة البشرية تقريباً، وحوَّلت الاقتصاد إلى مفهوم الاقتصاد الرقمي.
3. القطبية العالمية الواحدة: انعكست آثارها ضَعْفاً أصاب تكتلات إقليمية وجغرافية كبيرة، مثل جامعة الدول العربية، والاتحاد الإفريقي، واتحاد دول جنوب شرق آسيا، وحتى الاتحاد الأوروبي. وهنا ينبغي طرح السؤالين الآتيين: ما تقييمنا للمتغيرات التي نلحظ ملامحها تتقدَّم في ظل ما يشهده العالم الآن؟ وما مدى إدراكنا لتبعاتها؟
الحقيقة أن العالم تضرَّر كثيراً من الأزمات التي عصفت به، وأصبح الاقتصاد العالمي يئنّ -بشدةٍ- من وطأتها، ولذا بدأت الحكومات تتجه إلى تخفيف الأسباب التي أدَّت إلى الحرب الروسية-الأوكرانية، ومنها الاتجاه العالمي إلى استعادة أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، بما لا يسمح باندلاع حرب عالمية ثالثة.
وإذا كان ذلك هو ما تُصر عليه دول وتكتلات عالمية ترى أهميةَ سَبْر غمار الصراع حتى النهاية، على أمل أن تكون النتيجة نصراً اقتصاديًّا يتحقق بانهيار طرف قبل الآخر، فهل يمكن عَدّ المنطقة العربية طرفاً حقيقيّاً في هذا الصراع؟
وكيف يمكن أن تنأى دولها بنفسها عنه ولا سيَّما أن كثيراً منها تعاني اقتصاديّاً؟ في الواقع لا بدَّ من إقرار حقيقتين، أُولاهما أن دولنا العربية ليست طرفًا في ذلك الصراع، وأن كثيراً من دول العالم ترغب في الإفلات من مراحل العصر المتتالية، التي تضغط على الاقتصادات والشعوب بشدة، وتستخدم سياسة حافة الهاوية.
والثانية أن دولنا لا ترغب في مزيد من التعطل في سلاسل الإمداد، ولا في مزيد من ارتفاع معدلات التضخم الذي لم تسلم منه حتى الدول المصدّرة للنفط والغاز. ونظراً إلى ترابط شبكة المصالح العالمية، فإن أحد أهم الحلول المطروحة هو تفكيك العولمة، وتحويل العالم إلى مراكز اقتصادية إقليمية تجعله أكثر أمناً وأقل خطورةً، ما يوفر البديل في حال تعطُّل المصادر الإنتاجية الرئيسية.
وأخيرًا نستعرض أبرز المتغيرات الاستراتيجية التي تُمكِن ملاحظتها اليوم، ويُعتقَد أنها ستترسَّخ في العقدين المقبلين:
أولاً: توجّه العالم نحو تعدُّد المراكز القطبية، وهذا يعني مزيداً من الحرية والتوازن في العالم، ويمنحنا فرصًا للبحث العلمي، والتطوير، والتحالف الإقليمي.
ثانياً: نشوء مناطق اقتصادية إقليمية عالمية، ويُتوقَّع تعزيز واقع التعاون العربي-العربي، والعربي-الإفريقي في الميدان الاقتصادي والتكامل الإنتاجي، برغم استمرار العولمة، ولكنْ مع تخفيف مخاطر الاعتماد الأحادي الذي عرَّض صناعات لمخاطر التوقف لأدنى نقص في المكوّنات!
ثالثاً: التوجه نحو مزيد من الاندماج التكنولوجي وتعزيز الواقع الرقمي، نظراً إلى العائد الاقتصادي الكبير المتوقَّع منه، مع إيلائه التأمين اللازم، ضماناً لاستمرار الأعمال، فتوطين التكنولوجيا أصبح خياراً لا مفرّ منه.
الأستاذ الدكتور/ علي الخوري*
مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربية.