تغيير أميركي.. تغيير عربي
كانت زيارة الرئيس جو بايدن للمملكة العربية السعودية مفصليةً على أكثر من صعيد، وشكّلت مع القمة الأميركية العربية التي تخلّلتها فرصةً لرصد ملامح تغييرية لدى الجانبين. سيمرّ بعض الوقت قبل اتضاح البُعد الاستراتيجي الحيوي لهذا الحدث، لكنه أكّد من جهة إقراراً أميركياً بعدم صواب الخط السائد منذ أعوام في مقاربة سياسات واشنطن للمنطقة العربية وأزماتها وطموحاتها، ويفترض أن يُترجم ذلك بتصحيح السياسات، وليس بإعادتها إلى ما كانت عليه، بل بمواءمتها جدّياً مع المتغيّرات التي طرأت على المنطقة وتبدو متأتيةً من تغيير مقبل على النظام العالمي بشكل أو بآخر. كما أظهر الحدثُ، من جهة أخرى، ملامحَ ثوابت عربية وتفاهمات ما تزال تتبلور بعد سلسلة خلافات لم تمنع البحث عن قواسم مشتركة خلال قمم وحوارات بين الدول الأساسية على مدى الأعوام الأخيرة.
ثمة واقع لا يصحّ إنكاره، وهو أن المنطقة تحتاج إلى الولايات المتحدة، وتأكّد الآن أن العكس صحيح، ليس فقط جرّاء الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها، بل لأن علاقةً امتدت لعقود طويلة، وتداخلت فيها المصالح، لا يمكن أن تنتهي لمجرّد أن أحد طرفيها ارتأى أن مصالحه تدعوه إلى «الانسحاب» غير المنظّم من المنطقة وتركها تواجه أزمات كانت له أدوار في تعقيدها ومفاقمتها. أما وأن الرئيس بايدن شدّد على أن «أميركا باقية ولن تذهب إلى أي مكان» وأنه يؤيّد شراكةً جديدةً، فإن هذا يفترض نمطاً مختلفاً من تبادل المصالح ويتطلّب مقاربةً مشتركةً للتحدّيات والمخاطر كي يتصدّى الطرفان معاً لأسباب الأزمات، وعدم تجاهلها أو ترحيلها وإلا فإنها ستبقى عصيّةً على أي معالجة.
وفي مقابل الصداقة والشراكة المرادُ تفعيلهما بين الولايات المتحدة والعرب، هناك صداقات وشراكات انخرط فيها العرب مع الصين وروسيا والهند ودول أوروبية وآسيوية، ويبنون بها مصالحَ وطنيةً ولا يُواجَهون بأي قيود أو شروط. ولعل «الانسحاب» الأميركي كان أحد أهم الدوافع إلى هذه الانفتاحات، بأبعادها الاقتصادية والأمنية والنفطية، لكنها أصبحت من معطيات الواقع الدولي المستجد وبات مطلوباً تطويرها لا التخلّي عنها، كونها أعطت وتعطي قوةَ دفعٍ للتنمية التي توليها الدول العربية الأساسية كلَّ الاهتمام لتوطيد استقرارها. هناك نقلة نوعية في العقل القيادي العربي وتتمثل في التحوّلات الاقتصادية والإصلاحات الاجتماعية وتعزيز الروابط مع العالَم بعيداً عن أي عُقَد أو رواسب أيديولوجية. وقد عبّرت هذه النقلة عن نفسها أخيراً في أكثر من مسألة، وأبرزها اثنتان: الموقف المبدئي الرافض للحرب في أوكرانيا من دون الدخول في سباق الاستقطابات الدولية حولها، والإدارة الهادئة والإيجابية لأزمة إمدادات النفط مع تأكيد المسؤولية عن أمن الطاقة واستقرار أسواقها.
لم يأتِ الأمن صدفةً إلى جانب التنمية في شعار «قمّة جدّة»، فهما متلازمان في منطقة الخليج وجوارها الإقليمي، ويشكلان معادلة الاستقرار. لم تبدُ القمّة معنية بإطلاق رسالة تهديد إلى إيران، كما حصل في زيارة بايدن لإسرائيل، بل حرصت كالعادة على التذكير بشروط حسن الجوار، مع تأكيد إرادة الردع للتدخلات في الشؤون الداخلية للدول، بما فيها من أنشطة ميليشيات ودعم للإرهاب، وكذلك التشديد على ضرورة تأمين حرية الملاحة والتجارة عبر الممرات البحرية الدولية. أما «منع إيران من الحصول على سلاح نووي» فهو مطلب خليجي عربي قبل أن يكون أميركياً أو إسرائيلياً، لأن أهداف التنمية والاستقرار لا تتحقّق إلّا في منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
كاتب ومحلل سياسي -لندن