الحرب الأوكرانية.. القمح والسياسة
بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، ردت الحكومات الغربية بعقوبات اقتصادية شديدة. وردت روسيا بالتهديد بمنع صادرات النفط والغاز والأسمدة والقمح. وأعلن الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف في الأول من أبريل الماضي على تليجرام «لن نزود إلا أصدقائنا بالمنتجات الغذائية والزراعية»، واصفاً الطعام بأنه «سلاح هادئ» في الحرب.
والقمح سلعة عالمية استراتيجية. ففي عام 2009، بعد ارتفاع الأسعار، أعلنت لجنة فرعية تابعة لمجلس الشيوخ الأميركي أن القمح «أكثر محورية للحضارة الحديثة من النفط». والخبز يعد مقياساً للاستقرار. وهذا ما يجعله أداة دعاية قوية. وكتب أحد الاقتصاديين الزراعيين أثناء حالة الهلع التي حدثت عام 2010 قائلاً إن «القمح هو كل شيء يتعلق بالخوف».
والخطر الحقيقي ليس نقص القمح العالمي، بل حالة الجزع الناتجة عن الخوف الذي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ويعزل الجياع حقاً. وهناك ميل للاعتقاد بأن الناس يتضورون جوعاً بسبب عدم وجود ما يكفي من الطعام، لكن على مدار الستين عاماً الماضية، لم يكن الأمر كذلك. ففي تلك الفترة، اطرد انخفاض أسعار المواد الغذائية، وتقلصت عدم المساواة بين الأفراد داخل البلدان. ولذا فمعاناة الناس اليوم من الجوع، ليس بسبب نقص الغذاء، بل لأنهم لا يملكون المال أو القدرة على شرائه. ويؤكد عارف حسين، كبير الاقتصاديين في برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن «المجاعات لا تتعلق أبدا بإنتاج الغذاء، بل تتعلق دوماً بإمكانية الحصول عليه».
السؤال الآن يتعلق بمن يستطيع الحصول على القمح وبأي ثمن. والإجابة تحددها أمور مثل الحرب، واختناقات سلسلة التوريد، والصدمات المناخية المرتبطة بتغير المناخ، وتقديم الدعم لعملية الإنتاج، واتحادات التجارة والشحن، والمضاربة. فبسبب جائحة فيروس كورونا، كانت أسعار المواد الغذائية مرتفعة حتى قبل الحرب. وكانت سلاسل التوريد تمر بأزمة. وتفاقمت الأمور بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، وخنق القدرة على تصدير القمح. لكن حتى مع تعطيل الحرب للصادرات الأوكرانية، مازال العالم لديه الكثير من القمح.
ففي عام 2021، شكلت محاصيل روسيا وأوكرانيا على البحر الأسود نحو 28% من صادرات القمح في العالم، لكن سوق التصدير هذه لا تمثل سوى نحو 30% من إجمالي إنتاج القمح. وتشكل روسيا وأوكرانيا معاً نحو 13% من محصول القمح في العالم. والقمح الأوكراني وحده يمثل 3.7% فقط. وهذا لا يشمل احتياطيات القمح في البلدان حول العالم. وفي غضون ذلك، بدأ المزارعون، من إلينوي إلى الهند، في زراعة المزيد من القمح حين بدأت الأسعار في الارتفاع.
وفي الثامن من أبريل، توقعت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «الفاو» مستوى إمداد مريحاً نسبياً من الحبوب في جميع أنحاء العالم. وزاد إنتاج القمح العالمي. وبلغ إنتاج الأرز أعلى مستوياته على الإطلاق. وترى أنجي سيتزر التي شاركت في تأسيس مجموعة «كونسوس» الاستشارية في مجال الإنتاج الزراعي «إذا ظل الجميع هادئين، فهناك ما يكفي لتخطي هذا».
ويكمن الخطر في أن الذعر سيؤدي إلى تضخم الأسعار، ما يجعل سعر الخبز أعلى من أن يتحمله البعض. وتؤكد «سيترز» أن التضخم ذاتي التوالد، فالناس يقولون إن السعر يجب أن يرتفع بسبب التضخم، والناس تشتري مخافة ارتفاع الأسعار أكثر وهذا يرفع السعر، ويصبح لدينا تضخم، وهكذا دواليك. وهذا بالضبط ما حدث في أوائل مارس الماضي. وبعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، وصلت أسعار الحبوب أعلى مستوياتها على الإطلاق.
وهذا حدث أيضاً لمؤشر أسعار الغذاء العالمي لمنظمة الأغذية والزراعة. وبرزت العناوين الرئيسية حول نقص الغذاء في جميع أنحاء العالم. وحذر محللون من مجاعة جماعية. وحظي المضاربون بيوم مشهود، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار إلى درجة أن بورصات شيكاغو التي يضارب فيها المتداولون على التعاقدات الآجلة لتوريد الحبوب وصلت حدودها اليومية واضطرت إلى التوقف عن التداول خمسة أيام متتالية.
وردا على ذلك، فرضت عدة دول قيوداً على الصادرات الغذائية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بخلق ندرة مصطنعة، وبالتالي تولد ما حذر البنك الدولي أنه قد يكون «تأثيراً مضاعفاً» على الأسعار العالمية.
وفي وقت مبكر من أبريل، انخفضت الأسعار من ارتفاعات مثيرة للدهشة إلى مجرد ارتفاعات تاريخية، ثم هدأت الأمور لكن ليس بالكامل. فمازالت أسعار الحبوب عند مستويات لم نشهدها منذ ذعر 2008-2010، حين اندلعت احتجاجات على الغذاء في بلدان حول العالم. وفي الخامس من أبريل حين بدأت الأسعار في الانخفاض، ظهرت تهديدات تعرقل إنتاج الغذاء العالمي من خلال التلميح إلى أن نقص الأسمدة أمر «لا مفر منه». وأعلن أن على روسيا أن تراقب بعناية الصادرات «إلى الدول المعادية لنا».
وخلال الشهر الماضي، عكف المعلقون والسياسيون وتجار الحبوب على تحليل هذه التهديدات، خاصة أن صادرات أوكرانيا جزء أساسي من سوق التصدير العالمي في الذرة وزيت دوار الشمس والقمح. وإذا سمحنا له بذلك، فربما لن يحدث هذا إلا مؤقتاً، وغالباً في الأماكن التي يكون الناس فيها جائعين بالفعل. وإذا تملك الذعر من الدول الغنية التي تحصل على غذاء جيد وأبقت الأسعار مرتفعة، سيصبح الغذاء باهظ الثمن حقاً للأشخاص الأكثر جوعاً في العالم. واجتماع اضطرابات سلسلة التوريد وارتفاع الأسعار هو خبر سيئ بالنسبة للجوعى في جزء من العالم يحصل بشكل متزايد على قمحه من أوكرانيا وروسيا.
ففي عام 2017، حين أصبحت روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، أصبحت موسكو تاجراً للحبوب لبعض البلدان الأكثر جوعاً في العالم. ففي الخريف الماضي، ذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز أن روسيا قدمت ما يصل إلى ثلث واردات القمح للشرق الأوسط وأفريقيا. وتركيا التي تجد صعوبة في التكيف مع ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملة، حصلت على 85% من قمحها من روسيا وأوكرانيا في عام 2021. واشترى برنامج الغذاء العالمي، أكبر منظمة إنسانية في العالم، نصف قمحه من منطقة البحر الأسود في عام 2021.
وهذا يمنح روسيا قوة غير متناسبة، خاصة تجاه الدول الأكثر جوعاً في العالم. والبلدان ذات الدخل المنخفض هي الأكثر تضرراً من ارتفاع أسعار القمح لسببين. فأولا، الأنظمة الغذائية لهذه البلدان تعتمد بشكل أكبر على الكربوهيدرات، وثانياً، يشكل الغذاء نسبة كبيرة من الميزانيات الإجمالية. وذكر مارك بيلمار، المتخصص في الاقتصاد الزراعي بجامعة مينيسوتا، أن الغذاء قد يمثل نحو نصف ميزانيات الأسر في كثير من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
وفي المقابل، نجد أن النسبة تتراوح في الولايات المتحدة، بين 7% و10%. وفي البلدان الفقيرة التي تقتقر إلى العقد الاجتماعي، ساهم ارتفاع أسعار القمح تاريخياً في اندلاع انتفاضات سياسية. وقد يؤدي تغيير قصير الأجل في الأسعار إلى إثارة غضب طويل الأمد، وهذا هو سبب ذعر الحكومات. والعالم الذي يتمتع بغذاء جيد بوسعه القيام ببعض الأمور لوقف هذه الدورة التضخمية.
وأول هذه الأمور هو الامتناع عن الجزع. صحيح أن تقلب الأسعار قد يكون سيئاً للمستهلكين، لكنه جيد للتجارة الزراعية والمستثمرين ومضاربي الحبوب والشركات الكبرى الأربع متعددة الجنسيات التي تتحكم في توريد المواد الغذائية وشحنها وتخزينها وهي آرتشر دانيلز ميدلاند، وبونج، وكارجيل، ولويس دريفوس. والتضخم يخدم استمرار الحرب، فارتفاع أسعار القمح يساهم في تمويل الحرب. وكلما طالت الفترة التي يمكن فيها إثارة الذعر بشأن الطعام، زاد الدمار الذي بوسعه إلحاقه بالبلدان النامية، وكلما تحسن موقفه التفاوضي في أوكرانيا.
آنيا سيزادلو*
*صحفية تكتب عن الغذاء والسياسة والسلطة في أوقات الأزمات، مؤلفة كتاب «يوم العسل: مذكرات عن الطعام والحب والحرب»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»