بالعلم وحده يحيا الإنسان
نحن أمام أجيال من أطفال ويافعين على مقاعد الدراسة النظامية في العالم العربي، يتلقون علومهم ومعارفهم التي تشرف عليها وزارات التربية في مناهج يفترض أنها مدروسة ومعدة بعناية. لكن واقع الحال يضعنا أمام مناهج «تربوية وطنية» تصر على التلقين الأعمى، وتجنب النقاش والجدل والتفكير في ما يرد من «معارف» محشورة بين الأغلفة.
ومن جهة أخرى، نجد قراءة عمياء لمناهج التربية الإسلامية وعلوم العقيدة في المدارس والكليات والمعاهد والجامعات التي تعتمد التلقين أيضاً وتعطل الفكر الحر «والاجتهاد» المنطقي الذي لو تم إطلاقه وإطلاق العقل لشهدنا حركة تطور معرفي ومجتمعي غير مسبوقة. لا فرق كبيراً بين الناتجين، الناتج المعرفي لأطفال تربيهم «داعش»، والناتج المعرفي لبعض خريجي المدارس النظامية في العالم العربي. الفارق فقط هو في المسافة الزمنية التي يحتاجها الطالب العادي النظامي لتشغيل صواعق «العتمة» المزروعة في أعماق عقله الباطن. إنك حين تردد على مسامعي «كطفل» الآية القرآنية «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، ثم تعكف منهمكاً بحشو عقلي ووجداني أن الرجل ذا اللحية نصف الأمي، الحافظ فقط للكتب القديمة هو ذلك العالِم المقصود في الآية، فإنني كطفل سأكبر وتنمو مداركي مقتنعة بقدسية هذا الأمي الجاهل، وتصبح توجيهاته بالضرورة تحمل صفة المقدس، مهما كانت تلك التوجيهات.
طبعاً، سيثير هذا الكلام حنق كثيرين من حراس «التعصب الديني» والذين يعتقدون راسخين بيقينهم أنهم ولدوا فقط لحماية الدين «كما يعرفونه وحفظوه»، لكن هم أنفسهم في الحقيقة محصلة طبيعية للمعادلة التي لم تنكسر منذ وجد هؤلاء الحراس طريقهم للتحالف مع السلطة.
في دراستي الجامعية الأولى، ومنذ السنة الأولى في أوائل تسعينيات القرن الماضي في جامعة حكومية جنوب الأردن، كان من المواد الإجبارية مادة «الثقافة الإسلامية».
وفي تلك المادة الجامعية لم يكن مسموحاً لنا النقاش، إلا في حدود الكتاب الوحيد المفروض علينا من مدرس المادة وبموافقة قسم دراسات الشريعة. الكتاب كان طبعاً «معالم على الطريق» لقطب حركة «الإخوان المسلمين» المتطرف سيد قطب، والذي وضع في كتابه الأسس المنهجية الأولى لمن بعده من متطرفين، فألفوا كتابهم المتوحش «إدارة التوحش». ومن مصادر كتاب قطب نفسه علوم وفتاوى القتل والذبح.
هذا ما تلقاه جيلي في مرحلة تعليمية يفترض أنها تعتمد مناهج البحث العلمي وأولها النقاش والجدل والسؤال والمحاورة، ولنا أن نتخيل ما تلقيناه (ولا يزال يتلقاه من بعدنا) في المدارس التي تعتمد سلطة المدرس الأبوية الصارمة والتلقين الأعمى وحشو العقول. نعم، هناك حلول كثيرة لأطفال يختطفهم التطرف، حلول أمنية وحلول نفسية وعسكرية وكثير من النظريات الممكنة في إعادة تأهيلهم، لكن الحل الجذري الأكبر يكمن في باقي الأجيال من يافعين وأطفال في العالم العربي، الذين يحتاجون إلى ثورة علمية ومعرفية تتواءم وواقعهم المحيط والمتخم بتكنولوجيا المعلومات بكل الفوضى التي تعصف بها.
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا