تطوّع المحامين للدفاع عن المتهمين
درءُ المتهم الاتهامَ عن نفسه لا يُعد حقاً مِن حقوقه وحده، فهو حقٌ للمجتمع أيضاً، ففي كتابه «حقوق المتهم» يقول الدكتور عبدالحميد الأنصاري إنّ العدالة الجنائية والمصلحة الاجتماعية توجبان ألا تنزل العقوبة بغير الجاني، وإلا تحمّل المجتمع ضرَرين: عقاب بريء وإفلات مجرم، فكان أن أكّدت القوانين على حق المتهم في الدفاع عن نفسه.
ولأنّ خصم المتهم أبلغ حُجةً منه، أي النيابة العامة، كان لازم ذلك وجود مدافعٍ عنه لا تعوزه الحجة هو أيضاً، أي المحامي، فعينُ العدالة لا تقرّ بدفاع أبترَ يقوم به مَن لا يُحسن الدفاع عن نفسه، ولا سيما أنّ الاتهام يسلبه صفاءَ ذهنه، فلا يَسْلَس له زمام المنطق، فكان حضور المحامي معه ضمانة لعدالة محاكمته، كما جاء في كتاب الأنصاري.
وهكذا ظهرت فكرة انتداب المحكمة بنفسها محامياً للمتهم الذي لا يعيّن محامياً، فالمحامي إما أنْ يكون وكيلاً عن المتهم، ويتقاضى أتعابه منه بموجب اتفاق بينهما، وإما أن يكون منتدباً عنه، في حال لم يعيّن محامياً بنفسه، وتقدّر له المحكمة أتعاباً رمزية، وتبطُل المحاكمة لو لم يكن ثمة محامٍ للمتهم.
وتتفاوت القوانين العربية في مسألة الانتداب تلك، فبعضها تقرر ندب محامٍ للمتهم في الجناية، كما في القانون الكويتي، وبعضها تقرر ندبه في الجناية أيضاً إذا كانت حالة المتهم المالية لا تساعده على إقامة محامٍ، كما في القانون الأردني، وبعضها توسّع مِن الانتداب ليشمل حتى الجنح المعاقب عليها بالحبس وجوباً، فضلاً عن الجنايات، كما في القانون المصري.
وفي القانون الإماراتي يكون الانتداب في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد، ويمكن أن تنتدب المحكمة محامياً للمتهم في الجنايات المعاقب عليها بالسجن المؤقت إذا طلب المتهم ذلك، وتحققت المحكمة من عدم قدرته المالية على توكيل محامٍ.
لكن لا شيء يمنع مِن مبادرة أي جهة إلى إيجاد آلية لتوفير المحامين لكافة المتهمين، وذلك مِن خلال أرشفة كافة البلاغات الجنائية المحالة إلى النيابة، ورفعها في موقع إلكتروني مخصّص، بحيث يتاح لأي محام مرخّص اختيار الدفاع عن أي من المتهمين، وذلك على سبيل التطوّع. وحفاظاً على الخصوصية والسرية، يمكن أولاً طلب موافقة المتهم على عرض قضيته في ذلك الموقع الإلكتروني، ويمكن ثانياً إلزام المحامين بشروط الخصوصية والسرية.
وقد يتطلب الأمر تعاون عدد من الجهات، كأجهزة الشرطة والنيابات العامة وجمعية الحقوقيين والجهات المعنية بحقوق الإنسان، فكما قلنا إنّ الدفاع عن المتهم حقٌ للمجتمع، وأن المحامين هم الأجدر بمهمة الدفاع، لكن لا توجد حالياً آلية تفتح باب التطوّع أمام المحامين للدفاع عن المتهمين ممّن لا تسعفهم حالتهم المالية لتعيين محامين، أو لا تنطبق عليهم شروط انتداب المحامين لهم.
وفضلاً عن المحامين الحاليين، فإنّ المهنة تستقطب أعداداً جديدة من الشباب كل سنة، وسيكون من شأن تطوّعهم للدفاع إكسابهم خبرة كبيرة، ولا خوف في الوقت نفسه مِن أن يقدّم المحامي دفاعاً هزيلاً، أو أن يكون دفاعه خاطئاً يضرّ بموقف المتهم، ذلك أنه مِن المستقر عليه في القضاء أنه لو تعارضت مصلحة المتهم مع دفاع محاميه، فإنّ المحكمة لا تلتفت إلى ذلك الدفاع المبدى مِن المحامي. فلو أنّ المتهم لم يكن معترفاً بالجريمة مثلاً، بينما محاميه ابتنى دفاعه عنه على أساس أنه معترف، فإنّ ذلك الاعتراف على لسان المحامي لا يُؤخذ به، ولا يجوز للمحكمة أن تستند في إدانته على ما ذكره محاميه.
الآلية المقترحة ليست مهمة، فقد تكون هناك آليات أخرى أفضل، والمهم هو فكرة توفير محامين لأكبر قدر ممكن مِن المتهمين، الأمر الذي مِن شأنه التقليل مِن أعداد المدانين، وبالتالي تقليل أعداد المساجين، فرغم أنّ القضاء لا يدين إلا مَن يثبت الاتهام بحقه، إلا أنّ دور المحامين لا يمكن إنكاره في مساعدة القضاة على التوصّل إلى الحكم العادل.
كاتب إماراتي