السلفية والبروتستانتية
نقد الخطابات الدينية برؤية فلسفية واسعةٍ واحدٌ من عناصر التقدم الحضاري على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، حدث هذا في المسيحية وشكّل الحضارة الغربية الحديثة، وحدثت في الإسلام محاولاتٌ لم تصل بعد إلى غاية النجاح الدنيوي والحضاري مع الحفاظ على الدين نفسه.
في حوارٍ مهمٍ عرضت قناة «العربية» في برنامج «الندوة» لقاءً مع الدكتور رضوان السيد المفكر المعروف، وتحدث فيه عن بعض أوجه الشبه بين «البروتستانتية» في المسيحية و«السلفية» في الإسلام، وهو أمرٌ بالغ الأهمية للإسلام والمسلمين، لأن التأريخ للأفكار والتيارات وقراءة آثارها والمقارنة بين تجلياتها تؤثر في خلق خطاباتٍ جديدةٍ وتفتح زوايا للنظر والتنظير والرؤية، وهو ما لم يتم إنجازه في الدين الإسلامي بعد.
تاريخياً وفكرياً فإن شأن الدين أكبر من أن يترك للفقهاء وحدهم، ومع تطور العلوم والبشر وتعقد الحياة، فإن الوصول إلى التجاوز الحضاري لدى المسلمين ما زال دون المرجو لأسبابٍ وتعقيداتٍ يعرفها الباحثون ويرصدها المفكرون ويشعر بها الجميع، ومهمة إنجاز اختراقٍ حقيقي في هذا المجال متروكة للمسلمين جميعاً وكل جهدٍ يصب في هذا الإطار محمودٌ.
في 2013 كتب كاتب هذه السطور مقالة بعنوان «السلفية العلمانية»، وهو رصدٌ لإمكانات «مدنية» تحتوي عليها «السلفية» بعكس «الإسلام السياسي» جماعاتٍ ورموزاً، مثل الموقف من علاقة الدين بالسياسة، وما كتبه السلفي محمد إبراهيم شقرة تلميذ الألباني حين قال: «أحسب أن مقولة (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) كلمة حكيمة تصلح لزماننا» ورفض شيخه الألباني الخلط بين العلم والدين وقال: «هذا أقرب إلى الهزء بالقرآن منه إلى إظهار أن في القرآن معجزات علمية» وابن عثيمين قال: «أنا أحذر غاية التحذير من التسرع في تفسير القرآن بهذه الأمور العلمية» وهذا عكس تنظيرات الإسلام السياسي. يوصف «الحنابلة» بالتشدد، ولكن عند التدقيق تجد لديهم آراء أكثر انفتاحاً وخدمةً للعصر من غيرهم، فأبو الوفاء بن عقيل الحنبلي له آراء تستحق البناء عليها، ونجم الدين الطوفي الحنبلي كان يرى تقديم المصلحة على النص وابن تيمية له اجتهاداتٌ متقدمةٌ على عصره، وإنما حصرت الحديث عنهم هنا لرصد المفارقات التي يمكن الإفادة منها.
التراث الإسلامي كغيره، فيه الغثّ والسمين، فيه النافع والضار، وبناء خطاباتٍ دينيةٍ جديدةٍ ممكنٌ مع التفريق بين أفكار الأفراد والأفكار القابلة للنجاح، وحجم المغيب في التراث كبيرٌ وواسعٌ ومثيرٌ، ويمكن بناء مشروعٍ بحثيٍ متكاملٍ تتبناه بعض الجامعات أو مراكز الدراسات لجمعه وتنظيمه ونشره.
التراث الإسلامي مليء بالصراعات بين «السلطان» و«الفقيه»، وكان السلطان ينتصر لأنه ينطلق من تحديات الواقع وحاجات الناس بينما الفقيه يعتمد على أفكار وقناعات، وقد تطوّرت الخطابات الدينية لتواكب تطور البشر، وهكذا يجب أن يستمر التطور. منطقياً من السهل على الإنسان العاقل أن يدرك أن أفكار الناس تتطوّر وتتغير وأن ما قيل قبل عقودٍ أو قرونٍ لا يصلح للحاضر وتحدياته، وأن النموذج الأفضل ليس في الماضي، بل في المستقبل، ليس منجزاً مكتملاً يتم استحضاره بل غايةٌ برسم البناء والتشييد، وأحد أكبر العوائق لتشويه هذا المنطق البسيط هو ربط التراث البشري بالدين المقدس وهي عملية تشويه طويلة الذيل في تاريخ الإسلام.
أخيراً، فإن«ماكس فيبر» أحد الفلاسفة الألمان المعروفين، من يقرأ كتبه وأفكاره يجد تشابهاً للمواضيع التي يعالجها بتحديات المسلمين المعاصرة، ولهذا يولع الباحثون الجادون باستحضار خطابه، وحق لهم، وبالإمكان تبنّي مشروعٍ لدراسة فلسفته وأفكاره وتطبيقها على التراث الإسلامي بحكم التشابه الكبير، وهو ما قد يثير جدلاً مستحقاً بالاتجاه الصحيح.
* كاتب سعودي