في الوقت الذي كانت فيه معظم دول العالم، تحاول النهوض من تداعيات انتشار فيروس «كورونا» واستعادة نشاطها الاقتصادي، جاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتفرض واقعاً جديداً أدى إلى إحباط عملية استئناف الاستثمارات وزيادة مخاطرها، والهروب من السيولة المالية وأدواتها إلى الذهب كملاذ آمن. وقد ساهم ذلك في رفع سعر الأونصة إلى 2021 دولاراً، متجاوزا الرقم القياسي الأخير الذي سجله في صيف العام 2020 والبالغ 2020 دولاراً. ومع استمرار تداعيات هذه الحرب، يتوقع مصرف «غولدمان ساكس» الأميركي أن يرتفع سعر الأونصة في غضون ثلاثة أشهر إلى 2300 دولار، وبعد 6 أشهر إلى 2500 دولار، ليستقر على هذا السعر على المدى الأطول. 
لكن في مقابل ذلك، يحذّر خبراءُ السوقِ المستثمرين من ربط نسبة كبيرة من مدخراتهم بالذهب وحده، خوفاً من خسائر كبيرة تترتب على ذلك، في حال حصول تطورات إيجابية مفاجئة في الملف الأوكراني قد تساهم في تراجع سعر الأونصة إلى 1600 دولار. ولذا ينصح هؤلاء باعتماد تنويع المحفظة الاستثمارية وتعديل مكوناتها وفق تطورات السوق.
وإذا كان شراء الذهب، يمثل الخيار المفضل للمستثمرين عند حصول خضات في أسواق الأسهم والنفط، لتفادي توظيف السيولة في تلك الأسواق، وما يحيط بها من خسائر ومخاطر، كما حدث قبيل الحرب الأميركية في العراق عام 2003، وخلال الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وأزمة تفشي وباء كورونا عام 2020.. فإن كل التوقعات اليوم تبقى رهينةَ متغيرات عسكرية وسياسية واقتصادية في ضوء مستقبل النزاع في أوكرانيا ومدته، إضافةً إلى مسارات تتعلق بمفاوضات الملف النووي الإيراني في فيينا. وأيضاً يرتبط مستقبل الذهب هذا العام بمتغيرات تفرضها طريقة تعامل المصارف المركزية مع الأزمة، والخيارات المرتبطة بأسعار الفوائد وسياسات التيسير المالي. 
ولوحظ أنه في سياق الخلاف السياسي والصراع الاقتصادي بين موسكو وواشنطن، قررت روسيا الهروب من العملة الأميركية في علاقاتها الدولية وتعاملها المالي والمصرفي، ووجدت في الذهب حين بلغ سعره عام 2007 نحو750 دولاراً للأونصة، «ملاذاً آمناً» لمدخراتها، وكان متجهاً صعوداً بشكل صاروخي، متأثراً بتداعيات الأزمة المالية العالمية. وقد استغلت هذا الارتفاع وبدأت مسيرتها ببيع ما في حوزتها من سندات الخزانة الأميركية لتشتري بحصيلتها ما تستطيع من المعدن الأصفر، مما أدى إلى تراجع حصتها بهذه السندات من 176 مليار دولار عام 2010 إلى 96 ملياراً عام 2018، ثم إلى 2.4 مليار دولار فقط بنهاية عام 2021. لكن في المقابل ارتفع ما لديها من الذهب إلى 2298.5 طن، وتحتل حالياً المرتبة الخامسة في لائحة أعلى الدول (وفق مجلس الذهب العالمي) وتأتي بعد الولايات المتحدة (8133.5 طن)، وألمانيا (3359.1 طن)، وإيطاليا (2451.8 طن) وفرنسا (2436.4). وبذلك استطاعت تعزيز احتياطي البنك المركزي الروسي الذي بلغ نحو 640 مليار دولار، منها 130 مليار دولار من الذهب والباقي من العملات الأجنبية. 
ومن الطبيعي أن يستخدم هذا الاحتياطي في تمويل الإنفاق الروسي العام، وبخاصة الإنفاق الدفاعي وما تقتضيه متطلبات الحرب مع أوكرانيا. وإذا كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وجهت ضربةً قوية للاقتصاد الروسي، وجمَّدت نحو 300 مليار دولار من احتياطيه النقدي، فإنها لم تستهدف بشكل مباشر احتياطي الذهب، لذا تسعى مجموعة من أعضاء الكونغرس الأميركي إلى تشديد الخناق المالي على روسيا، وإصدار قانون يمنعها من التصرف في السيولة الموجودة في خزائنها، بما فيها المعدن الأصفر، ويستهدف كذلك حتى الأطراف التي تساعد روسيا في تمويل الحرب من خلال شراء احتياطيها من الذهب.

كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية