أوكرانيا بين رؤيتين
في خضم الشكوك حول تورط أميركا في الأزمة الأوكرانية، يبرز سؤال رئيسي: «من نحن؟». من نحن كي نلقي على فلاديمير بوتين دروساً ومواعظ حول احترام السيادة الوطنية والقانون الدولي؟
من نحن، مع سجلنا الداخلي حول العبودية والتمييز، وسجلنا الخارجي في دعم الزعماء الديكتاتوريين، ودعم الظلم المستمر الذي نشهده في الحياة الأميركية.. لكي نقدم أنفسنا كنموذج للحرية وحقوق الإنسان؟ من نحن، بعد 198 عاماً من الإيمان بمبدأ مونرو (بيان أعلنه الرئيس الأميركي جيمس مونرو في رسالة سلمها للكونجرس ونادى باستقلال كلِّ دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم، أو التّدخّل في تقرير مصيرهم) لكي نحاول منع روسيا من تحديد مجال نفوذها؟ مَن نحن، بجهلنا المعتاد، لكي نتدخل في نزاعات بعيدة لا نعرف عنها إلا القليل؟
غالباً ما يطرح الأشخاصُ من اليسار مثل هذه الأسئلة، لكن هناك نفس التفكير على اليمين أيضاً. عندما وجه بيل أورايلي السؤال إلى دونالد ترامب، في عام 2017، كيف يمكنه «احترام» بوتين؟ أجاب ترامب: «هل تعتقد أن بلدنا بريء للغاية؟». بصرف النظر عن ترامب، هناك شيء فاضل جوهرياً في هذا النوع من التفكير: كيف نلقي باللوم على الآخرين، بينما لا ننظر إلى خطايانا؟ البلدان، مثل الأشخاص، تكون أفضل حالاً عندما تتحلى بالوعي الذاتي وعندما تكون أقل غطرسة من الناحية الأخلاقية وأكثر تواضعاً من الناحية الفكرية.
لكن لا الأشخاص ولا البلدان يتحلون بتلك الفضائل: فالوعي الذاتي يصبح وصفةً للشلل الشخصي أو السياسي، والتواضع الفكري يؤدي إلى الارتباك الأخلاقي، والخوف من المخاطر المجهولة يصبح رصيداً للعدو. هذه بعض المخاطر الأعمق التي نواجهها الآن في التنافس مع الكرملين.
لماذا اختارت روسيا هذه اللحظة لكي تقوم بخطوتها الأخيرة حيال أوكرانيا؟ كما أشار الكثيرون، فإن روسيا قوة عسكرية كبيرة، لكنها من الناحية الاقتصادية هي إجمالي ناتج محلي اسمي أصغر من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية. وبخلاف الطاقة والمعادن والمعدات العسكرية التي هي من الدرجة الثانية، فإنها لا تنتج الكثير من البضائع الجذابة المطلوبة عالمياً: لا توجد أجهزة آيفون أو سيارات ليكزاس أو مسلسلات تليفزيونية.. روسية.
تتمثل مشكلة روسيا مع أوكرانيا، والتي بدأت بانتفاضة الميدان عام 2014، في أن الأوكرانيين لا يريدون أي علاقة بها. لكن موسكو تريد أوكرانيا تحت سيطرتها أكثر بكثير مما يريد الغرب إبقاء أوكرانيا في فلكه، ولذا فهي على استعداد لدفع ثمن أعلى للحصول عليها. وهناك ميزة أخرى، فقد وضعت روسيا نصب عينيها بشكل منهجي إعادة أوكرانيا إلى الحظيرة منذ عام 2004 على الأقل. أما بالنسبة للغرب، فيعتبر أوكرانيا أزمةً معقدةً أخرى سيسأم منها الجميع في نهاية المطاف. والميزة الثالثة هي ارتباط الإرادات: تريد روسيا تغيير النظام الجيوسياسي لأوروبا، وهي مستعدة لتحمل مخاطر كبيرة للقيام بذلك، بينما تريد إدارة بايدن الحفاظ على الوضع الراهن المضطرب على نحو متزايد. وتميل الحظوظ إلى تفضيل الأكثر جرأةً.
لكن الميزة الأكبر لروسيا حالياً هي الثقة بالنفس. قد يسخر المؤرخون الجادون من نظريات الكريملين التاريخية المعقدة حول عدم وجود أوكرانيا كدولة حقيقية. لكنه يؤمن بذلك، أو على الأقل يقدم عرضاً مقنعاً له. ما الذي يعتقده الغرب حقاً بشأن أوكرانيا، بخلاف أنه سيكون من العار والمخيف أن تبتلع روسيا أجزاء كبيرة منها؟ بالتأكيد لا شيء يستحق القتال من أجله. يفهم معظمنا أن للتاريخ طريقة للتحول إلى أسطورة، لكن العكس يمكن أن يكون صحيحاً: الأساطير لديها طريقة في صنع التاريخ. تميل الحظوظ أيضاً إلى تفضيل المؤمنين المتحمسين.
لقد اعتادت الولايات المتحدة أن يكون لديها ثقة بالنفس. اعتقدت أجيال متعددة من الأميركيين أن حضارتَنا تمثل التقدم البشري. كانت مُثُلنا السياسية -حول سيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات الفردية والحكم الديمقراطي- مُثُلاً عليا لغالبية الناس، بما في ذلك مَن هم خارج حدودنا. وتحدثت أعمالنا الأدبية عن التجربة الإنسانية العالمية، بينما كانت موسيقانا تنم عن الروح العالمية. وعندما خضنا الحروب، كان ذلك لأغراض أخلاقية كبيرة، وليس بسبب الأطماع. حتى أسوأ أخطائنا، كما هو الحال في فيتنام، هي نابعة من مبادئ يمكن الدفاع عنها.
كانت خطايانا حقيقية ومتعددة، لكنها كانت قابلة للتصحيح وليست سمات نظامية. وغني عن القول أن هذه الثقة بالنفس -مثل كل المعتقدات - كانت مزيجاً من الحقيقة والغرور والمثالية والغطرسة والرؤية والعمى. لقد قادتنا إلى ارتكاب جميع أنواع الأخطاء، التي أصبح إدراكها بشكل حاد هو الضغط المهيمن في حياتنا الفكرية. بيد أنها قادتنا أيضاً إلى انتصاراتنا العظيمة: مثل صياغة التعديلين الثالث عشر والتاسع عشر، وإنشاء جسر برلين الجوي وسقوط جدار برلين، وخطة مارشال وخطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز (بيبفار). لم تكن هذه الانتصارات نتيجة التساؤل «من نحن؟»، بل جاءت من التساؤل «مَن غيرنا؟». وفي أزمة أوكرانيا، التي هي بالفعل أزمة الغرب، قد نبدأ في طرح السؤال الثاني أكثر قليلاً من السؤال الأول.
*صحفي أميركي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»