إذا كانت مؤسسات التمويل الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) قد سبق أن حوّلت الاقتصاد التونسي في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة في بداية ستينيات القرن العشرين، من نظام اشتراكي يتمركز فيه القرار الاقتصادي بيد السلطة، إلى نظام ليبرالي يتبع دول المركز الرأسمالي، ويعتمد بشكل كبير على رأس المال الأوروبي، فإنها وبعد 62 عاماً تفرض على تونس «إصلاحات عميقة جداً»، كما وصفها ممثل صندوق النقد جيروم فاشيه، على طريق «ترشيق» القطاع العام، و«خصخصة» الشركات العمومية، ودمج الاقتصاد الموازي و«شرعنته».
وتشاء الصدف أن يأتي هذا التطور، في وقت تشهد فيه تونس تداعيات ناتجة عن فيروس كورونا وتعاني من أكبر ركود اقتصادي منذ استقلالها عام 1956، حيث سجل الناتج المحلي انكماشاً بنسبة 9% عام 2020. لكنه تحسن نسبياً في العام الماضي، مسجلا نمواً بنسبة 2.8% وفق أرقام الموازنة العامة، والتي توقعت أن يتراجع إلى 2.6% في العام الحالي. كذلك ارتفع حجم الدين العام من 32 مليار دولار إلى 37 ملياراً، مقترباً إلى النسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد تضاعف أربع مرات، مقارنةً بعام 2011، نتيجة السياسة الاقتصادية المرتجلة. وبحكم عجز الدولة عن تمويل الاقتصاد والالتزام بتسديد الديون المتراكمة، تسعى تونس إلى الوفاء بتسديد قروض سيادية مستحقة خلال العام الحالي تبلغ نحو 4.5 مليار دولار.
وعلى الرغم من التصنيفات السيادية السلبية للاقتصاد، لن تتوجه تونس إلى «نادي باريس» للاستدانة وإعادة جدولة الديون، وهي تراهن على اتفاق جديد مع صندوق النقد يمنحها إشارة إيجابية للحصول على ثقة المانحين والمستثمرين الدوليين، ويعيدها للاستفادة من الأسواق المالية، وخطوط التمويل الثنائية مع بلدان صديقة. وتوقَّع محافظ البنك المركزي مروان العباسي توقيع هذا الاتفاق قبل نهاية مارس المقبل، مؤكداً أن «تونس ما تزال قادرةً على سداد ديونها الخارجية».
وجاء هذا الموقف المتفائل، في وقت تعاني فيه تونس صعوبات في الاقتراض الداخلي، ورداً على تحذيرات وردت في تقارير دولية من أزمات ومخاطر لجوء الحكومة إلى إصدار مكثف لسندات الخزينة، ومواصلة إقراض المؤسسات الحكومية التي تزيد ديونُها غير المحصلة لدى المصارف عن 10 مليارات دولار. وكشف موقع «ذي بنكر» الدولي عن أن المقرضين المحليين، لا سيما مصارف القطاع العام، يواجهون مخاطر عالية مع وجود نحو 15% من أصول القطاع المصرفي في سندات الخزينة، وودائع لدى البنك المركزي التونسي.
وإضافة إلى تداعيات جائحة كورونا، تواجه تونس حالياً تداعيات غياب «الاستقرار السياسي». ويشترط صندوق النقد ضرورة توفير هذا الاستقرار، مع توافق الأطراف المكوِّنة للمجتمع التونسي، إلى جانب الالتزام بتنفيذ الإصلاحات المتأخرة، والتي تساعد على معالجة الأزمة المالية، وتشجيع الاستثمار بتوفير الحوافز للمستثمرين، خصوصاً لجهة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بما يمكِّن من تعبئة الموارد الضرورية، ويقي البلاد من خطر الإفلاس والفوضى.
ويبرز في هذا المجال اقتراحان للإنقاذ؛ الأول يتعلق بـ«خصخصة» شركات القطاع العام، وعددها 110 منشآت حكومية، وقد بلغت خسائرها المتراكمة نحو 3 مليارات دولار. وباعتراف المسؤولين الحكوميين، باتت هذه الشركات تشكّل خطراً يهدد توازنات البلاد. مع العلم أن اتفاقاً مشتركاً تم توقيعه بين الحكومة السابقة والاتحاد العام للشغل، للشروع بإصلاح 7 شركات كبرى. أما بالنسبة للاقتراح الثاني، فيتعلق بدمج الاقتصاد الموازي و«شرعنته»، بعدما أصبح يمثل 60% من الاستثمارات والأموال المتداولة في الاقتصاد الرسمي، مما يعطي جرعةً كبيرةً لموارد الدولة ويدعم موازنتها.
كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية