السباق بين الوباء واللقاح
ليس «كوفيد-19» الوباء الأول الذي يجتاح العالم، ولن يكون الأخير، لكنه لن يبقى إلى ما لا نهاية، شأنه في ذلك شأن ما سبقه من أوبئة. في عام 1830 كان وباء الكوليرا الذي أودى بحياة ثلث سكان مدينة باريس في شهر واحد. وفي نهاية القرن التاسع عشر انتشر وباء الإنفلونزا الروسية الذي تسبّب في وفاة مليون شخص، ويُعتقد أن منشأه كان فيروس كورونا أيضاً. وبعد ذلك كانت الإنفلونزا الإسبانية التي انطلقت في عام 1918 وأدت إلى مقتل 50 مليون إنسان في سنين قليلة.
والآن ينضم كورونا (كوفيد-19) إلى تلك السلسلة القاتلة إذ يتراوح عدد ضحاياه حتى الآن بين 10 و19 مليون إنسان. وتلتقي التقديرات العلمية على 16,3 مليون ضحية. ولا يعني ذلك أن هذا الوباء هو الأشد فتكاً الذي واجهته الإنسانية، فكثير ممن أصيبوا به تمكّنوا من الشفاء ربما حتى من دون أن يعلموا أنهم أصيبوا به فعلاً.
كل الأوبئة التي عصفت بالإنسانية اندثرت كلياً تقريباً، ويعود سبب ذلك إلى أن أعداداً كبيرة من الناس طوّرت مقاومة ذاتية ضد المرض بحيث أن الفيروس لم يعد يجد مضيفاً يستقبله. من ذلك مثلاً وباء الجرب الذي أنهك العالم، لكنه الآن لم يعد موجوداً. ومنها كذلك وباء الكوليرا ووباء الإنفلونزا ووباء الحصبة (الحميرة) التي أصبحت خاضعة كلياً للعلاج الطبي سواء عن طريق التطعيم (اللقاح) أو عن طريق العلاج (الدواء).
والسؤال الآن هو: متى يتحول «كوفيد-19» من وباء عالمي إلى مرض محلي قابل للاحتواء والعلاج؟ علمياً تبدأ عملية التحوّل عندما يتوقف المرض عن الانتشار، وهذا الأمر مرتبط بصورة مباشرة باللقاح الجماعي.
ومن هنا أهمية اللقاح. هناك تجارب إنسانية أدى نجاحها إلى التخلص بشكل كامل تقريباً من أوبئة فتاكة عانى منها إنسان القرن العشرين، مثل شلل الأطفال والحصبة. وما يزال فيروس الإنفلونزا يهدد صحة الإنسان حتى اليوم. ويتراوح عدد ضحايا هذا المرض سنوياً، حسب أرقام منظمة الصحة العالمية، بين 290 ألفاً و650 ألفاً معظمهم من كبار السن. وهناك حوالي 200 فيروس تسبّب هذا المرض.
لا يحقق اللقاح ضمانةً كافية بسبب قدرة الفيروس على التحول. لكن الوضع مختلف مع فيروس «كوفيد-19»، فاللقاح أسرع أثراً من قدرة هذا الفيروس على التحول، ومن هنا أهميته وضرورة سرعة تعميمه.لقد سجلت منظمة الصحة العالمية ارتفاعاً كبيراً في عدد الإصابات في دول أوروبا الشرقية بسبب الانخفاض الكبير في عدد الملقحين.
فاللقاح حسب المنظمة يمنع انتشار المرض بنسبة تتراوح بين 40 و60 بالمائة. ذلك أن مهمة اللقاح هي تحفيز الجسم على إنتاج مضادات ذاتية لمقاومة الفيروس والقضاء عليه. إن جهاز المناعة في جسم الإنسان جهاز معقد جداً، ولا يعرف الطب الحديث سوى القليل عنه. لذا فإن عملية تحفيزه لإنتاج المضادات ضد الأوبئة تعتمد بالدرجة الأولى على اللقاح. ومع تقدّم العلوم الطبية الحديثة فإن إنتاج اللقاح لم يعد يحتاج إلى فترات طويلة من البحث والتجارب، كما كان الأمر في السابق.
وهذا من حسن حظ الإنسان. لكن ثمة شعوب فقيرة جداً (في أفريقيا خاصة) لم يصلها اللقاح حتى الآن، وهي تعتمد على المقاومة الذاتية ضد الوباء لمنع انتقال العدوى، ومن ثم بتحفيز جهاز المناعة ذاتياً، وهو ما يشار إليه بعبارة «مناعة القطيع». لكن دون ذلك كثير من الضحايا! وفي الحسابات الأخيرة فإن فيروس «كوفيد-19» ليس أشد استعصاءً على العلم الحديث من الفيروسات التي ضربت الإنسانية في السابق. لكنه تجربة جديدة للتعامل مع الفيروسات المقبلة بفعالية أكبر وبوقت أقل.. وبوعي إنساني أشمل.
*كاتب لبناني