عادة ما يؤخذ على البلدان النامية ضعف تشريعاتها وقوانينها الضامنة للاستثمارات، وهو ما يبعد عنها رؤوس الأموال الأجنبية التي تطالب دائماً بوضع تشريعات وقوانين تحمي استثماراتها، كما أن ذلك ما يفسر الاستقطاب الكبير للاستثمارات الأجنبية في بلدان الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، التي تتمتع ببنية تشريعية قوية وبقوانين وأنظمة حوكمة مرنة وعادلة.
وتتمتع دول مجلس التعاون الخليجي ضمن محيطها الإقليمي بمستويات تشريعية مقبولة، إلا أن بعضها ما يزال لا يستجيب للمعايير الدولية بصورة كاملة، حيث يلاحظ ضعف الاستثمارات الغربية في الاقتصادات الخليجية باستثناء قطاع النفط والطاقة والصناعات المرتبطة به كالبتروكيماويات، في حين نجحت دول المجلس في استقطاب استثمارات آسيوية كبيرة، على اعتبار أن الأنظمة والتشريعات الخليجية تعتبر أفضل من معظم مثيلاتها الآسيوية وأكثر منها ضمانةً.
وفيما عدا القدرة على استقطاب الاستثمارات الخارجية، فإن قوة القوانين والتشريعات والحوكمة تساهم بصورة فعالة في جذب واستقرار الاستثمارات الداخلية والحد من تسربها للخارج، وهو تطور لا يقل أهمية عن محاولة استقطاب الاستثمارات الخارجية، فدول المجلس تسارع للسعي نحو تنويع اقتصاداتها تحضيراً لمرحلة ما بعد النفط.
وتعتبر عملية تطوير التشريعات والقوانين الضامنة للاستثمار من أكثر المسائل تعقيداً للتحضير لأي نقلة تنموية لارتباطها بمصالح فئات متعددة، فتركيا على سبيل المثال تواجه مصاعب كثيرة في محاولتها للانضمام للاتحاد الأوروبي، إلا أن أكثر هذه المسائل صعوبةً هي تلك المرتبطة بالتشريعات، بما فيها الاستثمارية، خصوصاً وأن الكثير من المستثمرين الأوروبيين، وكذلك الخليجيين، خسروا استثماراتهم بسبب ضعف قوانين ضمان الاستثمار هناك.
ومع حلول العام الجديد اتخذت بعض دول المجلس، وبالأخص الإمارات والسعودية، قرارات عملية للاستجابة للتحولات الاقتصادية العالمية ومجاراتها من خلال تحديث التشريعات والقوانين السابقة، حيث تم مؤخراً على سبيل المثال تحديث أكثر من 40 قانوناً في دولة الإمارات دخل بعضها حيز التنفيذ اعتباراً من بداية عام 2022، كما أعلنت السعودية مع بداية العام عن مشروع نظام جديد لتحسين البيئة التشريعية للمعاملات التجارية، مما سيكون له أثر فعال في تغيير الصورة النمطية عن طبيعة ضمانات الاستثمار في دول المجلس، وسيساهم في استقطاب المزيد من الاستثمارات.
بالتأكيد قد يتضارب ذلك مع مصالح بعض فئات قطاع الأعمال المحلي، والذي سيواجه منافسة أشد، إلا أن العمل بالقوانين والأنظمة السابقة لم يعد مناسباً، بل إن بعضها يعد معرقلاً للتوجهات التنموية ولا يستجيب للتغيرات الاقتصادية في العلاقات الاقتصادية الدولية المستجدة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هناك ارتباطاً قوياً بين سن التشريعات وتطبيقاتها العملية، فالمستثمرون الأجانب يراقبون عن كثب مدى إمكانية الالتزام بالقوانين والأنظمة المقررة، وذلك بالإضافة إلى مدى اكتمال ومرونة أنظمة التحكيم بعيداً عن المداراة والروتين الطويل المعقد. وفي هذا الصدد أيضاً اتخذت خطوات إيجابية في بعض دول المجلس، كإنشاء محاكم خاصة للتحكيم التجاري والمنازعات المالية والتي تم العمل بها مؤخراً.
لذلك يمكن القول إن طريق الإصلاحات التشريعية الخليجية قد بدأ ولا بد من استكماله ليرتقي إلى مستوى التشريعات والقوانين في البلدان المتقدمة، مما سيكسب دول المجلس قوة كبيرة في قدرتها على استقطاب استثمارات أجنبية في كافة القطاعات، وليس في قطاع الطاقة وحده، مما سيعَد تحولا جذرياً سيساهم في سرعة إنجاز أهداف دول المجلس الخاصة بالتنوع الاقتصادي، فالدول التي ستسارع إلى تحديث قوانينها السابقة وسن تشريعات جديدة ستكون أكثر قدرة على الاستقطاب والنمو والمنافسة والتنوع.
وبما أن دول المجلس تسعى أيضاً إلى تدعيم أسس السوق الخليجية المشتركة وتوحيد القوانين والأنظمة الاقتصادية، فإن التعاون فيما بينها حول عملية التحديث وسن القوانين الجديدة سيساهم في تقليص الفجوة بين تشريعات هذه الدول والتي ربما تعيق مستقبلاً توحيد أنظمتها، في حين أن التنسيق المسبق والتطور المتزامن لتشريعات وقوانين الدول الست سيساهم في سهولة وسرعة توحيد أنظمة وقوانين السوق الخليجية المشتركة، والتي ستشكل نقلة نوعية أخرى لقوة وتكامل الاقتصاد الخليجي.
خبير ومستشار اقتصادي