كتبتُ مقالاً سابقاً تحت عنوان: «التَّاريخ الإسلامي.. تهافت التشكيك بوجوده» (الاتحاد: 15/9/2021)، فالمشككون جلهم مِن اللادينيين، مع أنَّ التَّاريخ المذكور جله أخبار سياسة واجتماع وأدب، ليس تاريخ دين فقط، لكنَّ الغلو في التَّشكيك والتَّجاهل جعل هؤلاء ينفون وجود التاريخ مِن الأساس، وكأن ما وصلنا مِن أمهاته «مسرحيات» مخترعة.
لا اعتراض على مَن يتخذ عقيدة دينية أو لا دينية، فعقوبة الرِّدة، على الفكر، غير موجودة في القرآن، وهو الأصل الأول في التشريع، وقد بحثنا هذا في كتاب «العِقاب والغلو في الفقه والتُّراث الإسلاميَّ»، و«القتل بسبب ديني»(الجاهز للطبع)، وبهذا إذا كانت الدعوة إلى الحرية الدينية، فمِن حقِّ دعاتها الدِّفاع عن آرائهم، ومَن يطلع على كتاب الشَّيخ جابر طه العلواني(ت: 2016): «إشكالية الرّدَّة والمرتدين مِن صدر الإسلام إلى يومنا هذا»، يجد ما يرضيه، يطمئنه، فحد الرِّدة يخص المرتد المحارب.
قُرأ الكثير عن التَّطرف الديني، الذي أسفرت عنه الجماعات المسلحة، لكن لم يُقرأ عن الغلو الإلحادي، الذي خطورته أنه يضع الحِجة لوجود التطرف الديني «دفاعاً عن الدِّين»، فإذا توصلت إلى رأي في العقيدة، فلا تنكرها على غيرك، لكنَّ هذا لا يشمل مواجهة مَن يُريد توظيف الدين في السياسة، ويجعلها «عبادة»، فارضاً حكمه باسم الله والدين، ومعلوم أنَّ فرضَ السلطة عن طريق الدين تُولد الاستبداد الدِّيني، الأخطر مِن الاستبداد السّياسي، فالأخير يسفر عن مواجهة الإنسان للإنسان، أما الأول فيسفر عن مواجهة الإنسان مع الله، بعد فرض الحاكمية الإلهية، أو نيابة الإمام الذي يُنتظر حضوره، والفكرتان لا علاقة لهما بالعبادة.
إنَّ التقاء النقائض أمر لا يخص الإيمان والإلحاد فحسب، إنما يحصل في المجالات كافة، ومَن قرأ كتاب «مرض اليسار الطفولي»(1920) لزعيم الثَّورة البلشفية الرّوسية لينين(ت: 1924)، سيختصره بعبارة «التقاء اليمين المتطرف مع اليسار المتطرف»، مع أنهما خطان لا يلتقيان، إلا بالنتائج. كان يظهر هذا الكتاب بقوة عند كلِّ انشقاق داخل حزب شيوعي أو عمالي، والنتيجة هي حسب مؤلف الكتاب هدم «الثورة». ما يتصل بموضوعنا أنَّ التّطرف الإلحادي يهدُ كلَّ دعوةٍ إلى التَّنوير بتطرفه، عندما ينكر على صاحب العقيدة الدِّينية إمكانيّة مساهمته في النهوض.
مِن ماضي هذا الغلو أنَّ سُئل الخليفة المعتضد بالله العباسي(ت: 289هج) عن قتله لأحد كبار موظفيه أحمد بن الطَّيب السَّرخسي المعروف بابن الفرانقي(قُتل: 283هج)، وكان المعتضد يعرف أن للسَّرخسي رأياً في الدين، بما يدل به حديث وكتبه، ولم يتَعرض له، لكنه زاد وأخذ يدعو الخليفة إلى الإلحاد، فأجابه المعتضد: «يا هذا أنا ابن عمِّ صاحب الشَّريعة، وأنا الآن منتصب منصبه، فألحد حتى أكون مَنْ؟» (التَّنوخي، نشوار المحاضرة). كذلك كان الشَّاعر الخشكري النُّعماني(قُتل: 666هج) صديقاً لحاكم بغداد، خلال الحكم المغولي، علاء الدِّين الجويني(ت: 675هج)، وأثناء ما كان يُلقي عليه شعراً أذن المؤذن، فانتصب الجويني للصلاة، فقال له: «يا مولانا اسمع شيئاً جديداً، واعرض عن شيء له سنين»(ابن كثير، البداية والنّهاية).
لا نبرر القتل، ولكنَّ ماذا تريد أكثر ممَن يجالسك وينادمك، مع ما تبديه مِن خلاف لعقيدته! حتى تتطرف وتريده، وهو يُحكم باسم الدين، أن يتبنى عقيدتك؟! لهذا تكون معاداة الدين حِجةً وعذراً للجماعات المتطرفة، وهنا يلتقي النقيضان في نتيجة واحدة، وهي صناعة الإرهاب الدِّيني، وتحشيد تحت رايات الإسلام السياسي.
كاتب عراقي