في مخزن متشعب الدهاليز، في بلدة توركوان بشمال فرنسا، تتراكم قطاعات من إطارات دراجات مستعملة. وبعد قليل، تخضع هذه القطاعات المُتَبرَع بها للمعالجة ويتم ثقبها لتثبت الأبزيم فيها لتصبح أحزمة متينة. وهذه الأحزمة ليست المنتج الوحيد المصنوع من مواد قديمة الذي تبتكره شركة «لا في إ بيلتLa Vie est Belt». فشركة المنسوجات تتلقى تبرعات من شراشف (ملاءات) مستعملة لإنتاج الملابس الداخلية للنساء والرجال. بل تبيع الشركة حزم أدوات مساعدة ليقوم الزبائن بصناعة ملابسهم بأنفسهم.
وذكر «أوبير موت» الذي أسس الشركة عام 2017 حين كان في الثالثة والعشرين من العمر أن «الفرنسيين يحبون هذه المنتجات لأنها أصلية ولأن لها تأثيراً إيجابياً وتاريخاً. ومنذ ظهور مرض كوفيد تحديداً، هناك رغبة لدى الشعب الفرنسي للتخلي عن الموضة السريعة وشراء منتجات محلية الصنع». وبهذا، يساعد موت وشركته في تحول المنطقة إلى محرك لإعادة تدوير المنسوجات في وقت يتصاعد فيه الطلب على الملابس الصديقة للبيئة وعلى المنتجات محلية الصنع.
فقد أشارت استطلاعات رأي في الآونة الأخيرة أن الإقبال على المنتجات المحلية زاد بنسبة 64%. والمسعى يعتمد على التاريخ المحلي للمنطقة الشمالية المعروفة بأعالي فرنسا التي كانت على مدار قرن عاصمة المنسوجات في فرنسا.
ومسعى إعادة استخدام المواد المحلية وتقليص الهدر يمثل جزءاً من ظاهرة أكبر يتبعها المستثمرون الفرنسيون لتقديم منتجات محلية الصنع. ففي يونيو الماضي، شارك نحو 450 شركة منسوجات في إقامة مشروع «وادي المنسوجات» الذي يهدف إلى إعادة 1% من إجمالي إنتاج البلاد من المنسوجات إلى شمال فرنسا وما يتبعها من أكثر من 4000 وظيفة. وفي صناعة تهدر ما بين 10 آلاف و20 ألف طن من المواد كل عام في فرنسا، يقود منتجو المنسوجات في شمال فرنسا حالياً البلاد مسعى نحو إنتاج ملابس ولوازم ملابس صديقة للبيئة ومحلية الصنع. ويحدوهم الأمل في إعادة إنعاش التجمعات السكانية ودعم الاقتصاد المحلي ومساعدة المستهلكين على التفكير بشكل مختلف فيما يشترونه. وترى آنيك جيان، رئيس «فاشون جرين هب»، وهو تجمع يضم 300 شركة وجمعية يكرس جهوده للأزياء المستدامة في مدينة روبيه المجاورة، أن طريقة «المستهلكين الفرنسيين في شراء الملابس تغيرت وأصبحوا يميلون نحو القضاء على الهدر وتقليص الشراء».
ويمكننا تتبع تاريخ صناعة المنسوجات الفرنسية إلى القرن الرابع عشر، في البلدات الشمالية، مثل توركوان وروبيه. وبعد أن تضررت الصناعة بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية، بدأت الصناعة تنتعش في بداية خمسينيات القرن الماضي لتصبح أكبر محرك اقتصادي للمنطقة. لكن مع شروع الأنشطة الاقتصادية في نقل الإنتاج إلى مصانع في الخارج، شهدت الصناعة تراجعاً مطرداً بحلول الستينيات. وبحلول القرن الحادي والعشرين، كاد إنتاج المنسوجات المحلية أن يختفي تماماً. وتعاني منطقة شمال فرنسا من الافتقار إلى عمال المنسوجات المهرة وأيضاً من أعلى مستويات بطالة في البلاد.
وشارل أنري فلورين من أوائل الأشخاص الذين غيروا مصير المنطقة. وفلورين هو مالك شركة «بوسيل إ فلورين» لإنتاج الصوف ومقرها روبيه وتعمل منذ قرن. فقد بدأت الشركة بإنتاج الصوف عالي الجودة للعلامات التجارية الكبيرة. ولم تتبع الشركة خطى منافسيها وتنقل إنتاجها إلى آسيا في ستينيات القرن الماضي، بل قررت تغيير نموذجها الاقتصادي وتطلعت إلى إيطاليا لتستورد منها الصوف المعاد تصنيعه عالي الجودة.
وفي مخزنه مترامي الأطراف الذي يوجد به آلاف العينات من المنسوجات، أوضح فلورين أن ما فعله سمح له بتجاوز العاصفة وأبقى الإنتاج في أوروبا. ومضى يقول: «الجميع يفكرون الآن في تأثيرهم على البيئة». ونقل فلورين خبرته وتقديره للاستدامة إلى ابنته، إلويز جريمونبريز التي أسست علامة ملابس خاصة بها وهي «إيدي جريم» عام 2015. والاثنان في شراكة، فالابنة تشتري الأقمشة غير المستخدمة من شركة «بوسيل إ فلورين» لتنتج سترات ومعاطف أنيقة يدوية الحياكة.
وأصبحت العلامات التجارية الشائعة تتطلع إلى وسائل تجعل علاماتها أكثر رفقاً بالبيئة أيضاً، وتنقل جزءاً من مهمة الإنتاج إلى المنطقة. ومنذ سبتمبر 2020، ضخت الحكومة الفرنسية 100 مليار يورو في عملية إعادة تحفيز الاقتصاد، وثلث هذه الأموال خُصصت لإعادة الإنتاج إلى فرنسا باستخدام ممارسات أكثر حداثة واستدامة. والمتاجر القومية للبيع بالتجزئة التي لها مقر في روبيه تحسن ممارسات. فشركة «كامايو Camaïeu» لبيع الملابس بالتجزئة ترسل كل الملابس النسائية التي لا تباع إلى ورشة محلية لإعادة إنتاجها بمستوى أفضل على يد نساء كن عاطلات عن العمل. وشركة «لا ريدوت» لبيع الملابس بالتجزئة أيضاً، تقيم خط إنتاج لملابس الرجال صديق للبيئة بنسبة 100% وتستهدف الوصول إلى صفر من انبعاثات الكربون بحلول عام 2030.
كما أن هناك مبادرات مختلفة لتعزيز الإنتاج والتصدي للاستبعاد والتهميش. فقد عمل «مشروع الصمود»، وهو شبكة تضم 60 من منتجي المنسوجات، مع الذين يواجهون التهميش الاقتصادي والاجتماعي منذ مارس 2020 لتعليم أساسيات الحياكة. ويشغل مصنع «لا في إ بيلت» أصحاب العزائم بالشراكة مع جماعة «AlterEos» للاحتواء الاجتماعي.
لكن مازال هناك عقبات يتعين التغلب عليها. فما زالت صناعة المنسوجات تتعافى من نقل إنتاجها إلى الخارج وخسارة 530 ألف وظيفة بين عامي 2006 و2015، وفقاً للمعهد القومي للإحصاءات والدراسات الاقتصادية. لكن مع تزايد الإقبال على المنتجات المصنوعة في فرنسا، تسعى المنطقة جاهدة لتلبية الطلب على المواد وقوة العمل. والطلب يظهر أن الأمور تتحسن. وذكر موت- صاحب مصنع «لا في إ بيلت» أنه ينتظر المزيد من التبرعات لينتج الأحزمة وأضاف أن هذا يوضح أن «الأمور تتغير، وهنا حركة بالتأكيد».
كوليت ديفيدسون
مراسلة كريستيان ساينس مونيتور في فرنسا
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»