ستبقى أوكرانيا دولة تماس شرقي غربي ومحور صراع بين النفوذَين الروسي والأميركي -الأوروبي. هذا قدرها، حتى لو كانت غالبية سكانها ترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من أجل اقتصادها وإلى حلف الأطلسي (الناتو) لأسباب دفاعية وأمنية. هناك توتر حالياً، وحشود عسكرية على جانبي الحدود، لا الحدود الروسية الأوكرانية المعترف بها دولياً بل الحدود المستجدّة منذ عام 2014 عندما راح إقليم دونباس (الموالي لروسيا في شرقي أوكرانيا) يرتّب انفصاله شيئاً فشيئاً حتى إن منطقتَين فيه، هما دونيتسك ولوغانسك، أُعلنت كلٌّ منهما «جمهوريةً شعبية» مستقلّة عن البلد الأم. كانت «الثورة البرتقالية» عام 2004 قد افتتحت تغييراً عميقاً في أوكرانيا وأدخلتها في مخاض انتقالي، سياسي واجتماعي، تمهيداً للخروج من تحت المظلّة الروسية، لكن انتخابات عام 2010 أوصلت إلى الحكم فريقاً غير معادٍ لموسكو، إلى أن أطاحه حراك شعبي عارم في عام 2014.
ما لبثت التداعيات أن دفعت البلاد إلى حافة التقسيم والتفتت، إذ ردّت روسيا على إسقاط الموالين لها أولا بضم (أو «استعادة») شبه جزيرة القرم، ثم بدعم انفصاليي الشرق مزدوجي الثقافة والهوية. تحوَّل النزاع إلى قتال أهلي، فارتسمت خطوط تماس، وتطلّب الأمر اتفاقين («مينسك1» و«مينسك2») لوقف النار، ولم تنتهِ المشكلة بل بدأت. تلقّت روسيا عقوباتٍ أميركية وأوروبية أضرّت باقتصادها إلى حين، ثم استوعبتها، لكنها استفزّتها فدفعتها إلى التدخل في سوريا عام 2015، ومنذ ذلك الوقت تعرض على القوى الغربية مقايضات بين المسألتَين، غير أن الأميركيين والأوروبيين فوّضوا سوريا إلى موسكو، بشروط، ورغم رفضهم أي تسويات في أوكرانيا امتنعوا عن بتّ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» للبحث عن حلٍّ سلمي ديبلوماسي يبقي أوكرانيا موحّدة الأراضي، على أن يُستنبط حلٌّ ما للقرم.
لا شك في أن الحشود العسكرية تجعل الحربَ أكثر من مجرّد احتمال، فأي شرارة يمكن أن تشعلها حين يبلغ التوتر أقصاه، كما هو حالياً. لكن، ما الذي دفع روسيا إلى حشد قواها؟ التقارير الاستخبارية في كييف تنذر بأن أوكرانيا معرّضة لغزو روسي قريب، وموسكو تنفي ذلك وتقول إن أمنها معرّض لخطر، خصوصاً أن القوات الأوكرانية الحكومية زادت هجماتها على قوات الشرق، مرفقةً بمناورات وتحركات أطلسية في البحر بالتنسيق مع كييف، ما يعني أن الأخيرة تجاوزت «الخط الأحمر» الروسي. غير أن الطرف الأميركي الأوروبي لا يعترف بهذا الخط، ومع تخوّفه من غزو روسي قد ينزلق إلى حرب أوسع لا يريدها، فإنه لا يبدي عزماً واضحاً على الدفاع عن أوكرانيا بل استعداداً لتسليحها وفرض عقوبات «غير مسبوقة» على روسيا.
واقعياً، لا أحد ينسى بأن الحرب في أوروبا هي «خط أحمر» للجميع، فويلات الحرب العالمية الثانية لا تغيب عن الأذهان. الحشود الروسية قد تكون إنذاراً لـ«الناتو» بعدم الذهاب بعيداً في «أطلسة» أوكرانيا، أو محاولة لتحريك الملف بـ«غزو» جزئي هدفه تثبيت الأمر الواقع في الشرق وضمّ إقليم دونباس بجمهوريتَيه أو من دون ضمّه. لعل موسكو وجدت في مؤشرات الخلل في سياسات واشنطن وحلفائها لحظة مناسبة لحسم الإشكال الأوكراني، لكنها بالتأكيد لا تريد مزيداً من العقوبات. في المقابل، لا يخفي الجانب الغربي حرجه إزاء التهديد الروسي، وليست لديه خطط جاهزة لإيجاد تسوية، فالعديد من الخبراء يعترفون بصعوبة الحفاظ على أوكرانيا موحّدة تحت النفوذ الغربي.
كاتب ومحلل سياسي -لندن