عندما حصل جنوب السودان على استقلاله في عام 2011، كان البلد الجديد بحاجة إلى مساعدة العالم. والآن بعد عقود من الحرب والفقر، ليس لدى البلد ما يكفي من الأمور الأساسية، مثل المدارس والطرق والمستشفيات وأبراج الاتصالات وأنابيب المياه وشبكات الصرف الصحي.. إلخ. لكن العديد من هذه الأمور كان غامضاً، لأنه لم يكن هناك سجل محدّث لعدد الأشخاص الذين يعيشون بالفعل في جنوب السودان، ناهيك عمن هم أو أين كانوا. وكانت الحكومة السودانية قد أجرت إحصاءً سكانياً في عام 2008، لكن الحرب الأهلية التي شهدها الجنوب بعد ذلك، والهجرة والنزوح الواسعين جرّاءَها، جعلت هذه الإحصاءات عديمة الجدوى حالياً. فبسبب تلك الحرب أصبحت الأرقام القديمة أكثر تشويشاً. لذا فقد اتخذت الحكومة قراراً يبدو بسيطاً بشكل مخادع، ألا وهو قيامها بإحصاء سكاني. ومن المقرر أن يبدأ في العام المقبل الإحصاء الذي طال انتظاره.
في العديد من البلدان، يعد التعداد سمة منتظمة وغير ملحوظة للحياة. لكن في كثير من أنحاء العالم يظل إحصاء الأشخاص مهمةً غير عادية وتنطوي على مخاطر كبيرة للغاية.
ويقول كريس جوكيم، الذي يقوم بجمع وتحليل البيانات السكانية العالمية، والذي اشترك أيضاً في عملية تعداد السكان في جنوب السودان: «إنه مسألة أساسية وضرورية في كل شيء تقريباً».
وتشير التعدادات إلى مجموعة متنوعة من القرارات التي يتعين اتخاذها بناءً على عدد السكان، بدءاً من الحدود المتنازع عليها للمقاطعات الإدارية، وعدد اللقاحات ضد «كوفيد-19» التي تحتاج الحكومة لشرائها، إلى ما إذا كان ينبغي على شركة ما بناء مصنعها التالي لرقائق البطاطس في منطقة معينة بناءً على عدد العمال المتاحين هناك.
ويوضح فريردريك أوكوايو، المستشار الفني في صندوق الأمم المتحدة للسكان، والذي قدّم المشورة للحكومات في جميع أنحاء العالم بشأن تعداد السكان: «في غياب التعداد السكاني، يتعين على الحكومات التخمين، فالموارد تذهب إلى الأماكن الخطأ».
لكن في دولة مثل جنوب السودان يواجه القائمون على عملية التعداد السكاني تحديات كبيرة إضافية. فعلى سبيل المثال، كيف يمكنهم حصر الأشخاص الذين يتنقلون باستمرار بسبب الصراع والجوع؟ وكيف يتنقل عامل التعداد الذي لديه حافظة أو جهاز آيباد في منطقة حرب نشطة؟ وكيف يمكنك الوصول إلى الأشخاص الذين يعيشون ليس فقط «خارج الشبكة» ولكن على بعد مئات الأميال من أقرب طريق ممهد؟
في وقت سابق من هذا العام، أكمل جنوب السودان «مسحاً سكانياً»، وهو نوع من الإحصاء السكاني المصغر المصمم كإجراء مؤقت حتى يمكن القيام بالتعداد الحقيقي. أحصى عمال التعداد الناس في حوالي 1500 موقع في جميع أنحاء البلاد، واستعرضوا العديد من التحديات التي تواجه إجراء التعداد الكامل.
يقول يوليوس سيبيت دانيال، مدير إدارة مسح السكان في المكتب الوطني للإحصاء في جوبا: «كان لدينا الكثير من لدغات الأفاعي» بين عمال التعداد. وفي بعض المناطق، كان الفيضان يعني أن يضطر مسؤولو التعداد لخوض المياه العميقة، ممسكين بأجهزة الآيباد الخاصة بهم فوق رؤوسهم.
وعلى الصعيد العالمي، يعد تنظيم الإحصاء السكاني أكثر صعوبة في الأماكن التي تكون فيها النتائج عالية المخاطر، لأن الموارد الحكومية الشحيحة والمساعدات الدولية تعتمد على النتائج. يقول دانيال: «نحتاج إلى إحصاء السكان أولاً ثم تتبع جميع الأعمال الأخرى».
وقد أدت التطورات في مجال تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والاتصالات الخلوية إلى تسهيل عملية تقدير عدد السكان بالنسبة للديموغرافيين، حتى عندما يتعذر إجراء التعداد الحقيقي. ويشير الدكتور جوكيم إلى أن التقديرات يمكن أن تذهب في الاتجاه الخاطئ، وإن «عدَّ كل فرد لا يزال هو الطريقة الأكثر دقة».
وجنوب السودان ليس البلد الوحيد الذي واجه هذه التحديات في السنوات الأخيرة. فقد خرجت أفغانستان وميانمار من عقود من الصراع، حيث طرق المانحون أبوابهما ليكتشفوا أن أياً من البلدين لا يعرف عدد الأشخاص الذين لديه. وفي شمال نيجيريا وشرق الكونغو، فرض الصراع المستمر هناك على علماء الديموغرافيا أن يبدعوا في أساليبهم، وذلك باستخدام الأقمار الاصطناعية والنماذج الرياضية وحتى استخدام الهواتف المحمولة لتشكيل أفضل تخمين لديهم حول مَن يعيش وأين يعيش؟
في جنوب السودان، توجد تحديات عديد متراكمة، إذ ما تزال البلاد تعاني من الصراع العنيف، ولديها فقط بضع مئات من الأميال من الطرق المعبدة. وفي معظم الأوقات، يتعذر الوصول إلى مناطق بأكملها بسبب المطر. ومن ناحية أخرى، فإن التعدادات تكلف الكثير من المال. وحتى معرفة مكان الناس لإحصاء عددهم قد يكون أمراً صعباً، نظراً لزيادة معدلات الهجرة بسبب أزمات أخرى.
يقول دانيال إن جنوب السودان كان يحاول إجراء تعداد سكاني كامل منذ عام 2014، لكن الحرب ونقص التمويل وانتشار الوباء.. كلها حالت دون القيام بذلك. كما أن الجدول الزمني للقيام بالتعداد في العام المقبل لا يزال غامضاً.
ويقول ويلينجتون مبيثي، المتخصص الفني في صندوق الأمم المتحدة للسكان، والذي شارك في المسح التقديري للسكان: «ينتظر الناس هنا إجراء تعداد سكاني»، أملاً في أن يعني ذلك مزيداً من الموارد في أفقر الأماكن.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»