تميزت العلاقات الدولية منذ قديم الأزل بالديناميكية والتطور، وخاصة في المفاهيم التي تتوفر في الدول حسب مقومات معينة، وأبرزها مفهوم «القوة الشاملة» الذي كان يُنظر إليه قديماً في إطار العلاقة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية للدولة، ثم تم تحديد الموقع الجغرافي كأحد عناصر تلك القوة، ثم مجهود وبرامج الدولة تجاه مواطنيها، ثم تم إضافة القوة العسكرية كأحد أركان قوة الدولة، وتلتها الديمقراطية، إذ تم وصف الدول ذات النظام الديمقراطي بالدول الأكثر قوة.
ولكن القاسم المشترك بين جميع الباحثين والمُنظرين في مفهوم القوة الشاملة، هو التخطيط للسيطرة على الدولة الأخرى وفرض الهيمنة علي مقدراتها وصنع القرار فيها. وفي هذا الإطار يُعرف «مودلسكي» القوة بأنها «قابلية الدولة في استخدام الوسائل المتوافرة لديها من أجل الحصول على سلوك ترغب أن تتبعه الدول الأخرى». وهنا يتطرق الباحثون إلى التفرقة بين القدرة والقوة، حيث الأولى تشير إلى مجموع طاقات وموارد الدولة، سواء التي تستخدمها أو غير المستخدمة، وتُساهم بصورة مباشرة في تحرك تلك الدولة سياسياً لتحقيق مصالح خاصة بها، أما القوة فهي تعبئة تلك الطاقات والموارد وتحريكها من خلال الإرادة والقرار السياسي، وتشمل الأدوات الدبلوماسية والعسكرية وغيرها. وبالتالي فليس كل دولة قادرة على تسخير قدراتها في إطار القوة المطلوبة لتحقيق مصالحها، وذلك لفشل القيادة السياسية فيها.
وفي نهاية ثمانينيات القرن الماضي بدأ يتشكل مفهوم جديد للقوة يتضمن وسائل جديدة لم تكن في الحسبان، ولكنها أثبتت فاعلية كبيرة لدى العديد من الدول التي قد تفتقر إلى مقوم أو أكثر من مقومات تعريف القوة الشاملة التقليدي للدول. وأصبح المفهوم الجديد يُعرف باسم «القوة الناعمة» وكان «جوزيف ناي» أول من صاغ هذا المفهوم في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان «مُقدرة للقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية»، ثم قام بتطوير المفهوم في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية». وينحصر مفهوم القوة الناعمة في قدرة الدولة على ممارسة التأثير والنفوذ على الساحة الدولية من دون اللجوء إلى الإكراه أو القوة العسكرية، وإنما من خلال امتلاك الدولة لمقومات قوة تتجسد في الأفكار والمبادئ والأخلاق، ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا النهج والإعجاب به، الأمر الذي يخدم في النهاية المصالح القومية لتلك الدولة. وبالتالي فإن القوة الناعمة هي قدرة دولة ما على التأثير على سلوك دولة/ دول أخرى من أجل تحقيق الأهداف التي تصبو إليها. ونذكر هنا الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم حاليا، ولكنها ليست كذلك اعتماداً على المقومات العسكرية والاقتصادية فقط، بل في قدرتها على جعل دول أخرى تضع مصالحها الوطنية في الإطار الذي يخدم المصالح الأميركية ذاتها.
ومؤخراً برز مصطلح جديد على ساحة العلاقات الدولية، هو «القوة الذكية»، والذي ينحصر في قدرة الدولة على تسخير مقومات قوتها العسكرية والاقتصادية والناعمة معاً من أجل تحقيق مصالحها الوطنية، وبالتالي فمفهوم القوة هنا لا ينحصر في القوة التقليدية وهي العسكرية والاقتصادية أو الحديثة وهي الناعمة، بل يجمع الأسلوبين معاً، الأمر الذي يمنح الدولة أفضلية كبرى على الساحة الدولية.
والمحصلة أن العلاقات الدولية تتطور بتطور الدول وبقدرتها على تحديد مصالحها الوطنية والأسلوب الذي يخدمها لتحقيق تلك المصالح ومدى البراعة وفن التخطيط الاستراتيجي، لتطبيق ذلك الأسلوب سواء بالقوة التقليدية أو القوة الناعمة أو كلتيهما.
باحث إماراتي