العقلية الاستعمارية والاستعمار الخفي!
يرى البعض أن الاستعمار الجديد له وجه جميل وباطن قبيح. هذا الاستعمار يعكس ثوابت مستمدة من الاستعمار التقليدي، والتي لا تحيد عنها الإمبراطوريات الحالية والمؤسسات الكبرى الداعمة لها، عندما تسعى لتعيد صياغة المسميات وغربلة الممارسات التي تخلص في النهاية لتحقيق نفس النتيجة المرغوبة لجانب على حساب الجانب الآخر، دون النظر والالتفات إلى معضلة الاحتياج الأخلاقي للنوع البشري، وما إذا كان على قدر كاف من الأهمية لكي يصبح مساوياً للاحتياجات الأساسية التي لا يحيا من دونها الإنسان؟ أم أن إنسانية الإنسان نسبية ومتغيرة، لتعكس طبيعة الحركة وعدم الثبات في الكون على العموم وفي النفس البشرية على الخصوص.
فالدول التي كانت مسيطرة في الماضي على مستعمراتها لا تزال تمارس اليوم الدور نفسه وبطرق غير مباشرة، وتدين العديد من النخب الفئوية في الدول التي تحررت من الاستعمار اليوم بالعرفان والتقدير للدول التي كانت تستعمر دولهم، حيث يعتقد العديد منهم أن الوصاية التي تفرضها الدول الاستعمارية السابقة على دولهم ومجتمعاتهم هي الطريق للتقدم والازدهار، ومصالح خاصة واستثمارات ورشاوى وصفقات وشبكات أموال قادت إلى التكيّف مع الاستعمار الخفي، وعقلية متأصلة بعمق يبدو وكأنها المعيار الوحيد لتبرير ما يرتكب من جرائم بحق السواد الأعظم من الشعوب.
والاستعمار المعاصر حقق نجاحات مبهرة للغاية، حيث تجد اليوم أطفال وشباب الشعوب متعلقة بالحضارات التي ينظر إليها على أنها هي التي تستحق أن تكون مثالاً يحتذى به في كل نواحي وسلوكيات الحياة، وأن طرق وسبل عيش تلك الشعوب التي كانت مستعمرة لهم هي المثالية والتي تلبي طموحاتهم، وهم لا يعلمون أن ثروة الدول المتقدمة مبنية على أن معظم سكان العالم يجب أن يكونوا في احتياج دائم للقوى الكبرى، حيث لا يزال الاستعمار والطبقية الأممية يحكمان العالم، ووضع اليد على ثروات الشعوب وإغراقها بمشاكل وتحديات لا آخر لها، وعدم المساواة الاقتصادية العالمية التي لا تزال تتحكم في عالم اليوم، وولادة أنظمة استعمارية جديدة تبني أفكارها من منطلق التنوير الذي يعزّز فكرة تفوق الرجل الأوروبي والتقليل من المعارف «الأخرى» التي ينتجها غير الغربيين ومعضلة كيفية إبطاء التنين الصيني بعض أضعاف النموذج الياباني.
وبالرغم من حصول المزيد من المستعمرات على الاستقلال، فقد أصبح إنهاء استعمار الحاجز النفسي والعقلي والثقافي والاقتصادي والمعرفي هو التحدي الأصعب بالنسبة لها، إلى جانب العجز عن تعرية مقولة إن ذروة الإنجازات البشرية هي ماركة مسجلة للجانب الغربي، وبالتالي الإساءة إلى التقاليد الثقافية وأنظمة المعرفة الأصلية لشعوب العالم التي تعج بالموارد الطبيعية باعتبارها متخلّفة وغير متحضّرة وهي فقط حارس شخصي للثروات التي تملكها.
والاستعمار بحلته الجديدة يدفع دولاراً باليد اليمين ليحصد مقابلها عشرة دولارات باليد اليسرى، وذلك تحت ساتر القضاء على الفقر والمرض والتخفيف من معاناة الشعوب وآثار تغير المناخ، والإجراءات الضرورية لحماية وإدارة واستعادة النظم البيئية الطبيعية وادعاءات مساعدة الشعوب على إدارة ثرواتها وتعظيمها، ولكن ما هو المقابل؟
فرفاهية الإنسان ومنافع التنوع البيولوجي هي أفكار وطموحات مشروعة وتبدو رائعة على السطح ولكن ما خفي كان أعظم، حيث نشاهد شركات النفط والغاز والمصانع والمؤسسات المالية متعددة الجنسيات تستثمر بالفعل ملايين الدولارات لشراء الأراضي لتعويض انبعاثاتها، بدلاً من التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري أو تقليل انبعاثاته، وتوضع الخطط والاستراتيجيات وتؤخذ القرارات بالنيابة عن جميع سكان العالم من قبل دول بعينها.
وعندما تفكر باقي الأمم في التراجع أو التباطؤ في المشاركة بالخطط والمشاريع المقترحة، يتم شيطنتها وعزلها عن المجتمع الدولي وإحداث الفوضى في أراضيها وممارسة ضغوط عديدة عليها لتخضع في النهاية، ولذلك تعتبر الممارسات الاستعمارية المعاصرة فكراً وعقيدة ليس لها ارتباط بحقوق وكرامة الإنسان والعدالة والمساواة وفضيلة الديمقراطية المقنعة، وعلى النقيض من ذلك هي غايات لا تبررها الوسيلة.
* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.