من غريب الاتفاق أني تلقيت خبر وفاة المفكر المصري البارز الصديق حسن حنفي مع زملائي من كتاب جريدة «الاتحاد» ونحن نختم منتدانا السنوي في أبوظبي، الذي نادراً ما كان الراحل يغيب عنه، رغم استفحال مرضه في السنوات الأخيرة.
وكنت قد قرأت مبكراً كتابات حسن حنفي الفلسفية، ومن بينها ترجمته المتميزة لكتاب سبينوزا الشهير «رسالة في اللاهوت والسياسة»، بالإضافة إلى عدد من الدراسات الأخرى في الفلسفة الإسلامية والغربية منشورة في كتابه «دراسات فلسفية». وعندما صدر في عام 1980 كتابُه «التراث والتجديد» الذي هو مقدمة مشروعه الفكري الواسع، تلقفتُ الكتاب بحماس، قبل أن ألتقي بالرجل في تونس في نهاية الثمانينيات، ثم تتكررت لقاءاتُنا كثيراً، سواء في سياق المؤتمرات الفلسفية المتخصصة أو الندوات الفكرية العامة.
وإذا كان أصحاب المشاريع التراثية من المفكرين العرب انطلقوا في الغالب، إما من المباحث الإبستمولوجية أو تاريخ الأفكار، فإن حسن حنفي تميز بتجذره في المنظور الفلسفي.
ومع أنه كان شديد الوعي بأهمية الأيديولوجيا في توجيه وعي الناس ودفع تطلعاتهم العملية، إلا أن مرجعيته الأساسية انطلقت من تأويلية النص الديني بالرجوع إلى سبينوزا والانفتاح على الفلسفات التأويلية المعاصرة، بما فيها جوانبها اللاهوتية (ومن هنا اهتمامه بلاهوت الثورة الكاثوليكي في أميركا اللاتينية)، بالإضافة إلى المقاييس الفينمونولوجية التي كان الاهتمام بها ضعيفاً في الحقل الأكاديمي العربي.
ومن اطلع على أطروحته الرائدة للدكتوراه بالفرنسية في الستينيات حول تأويلية أصول الفقه من منظور فينمونولوجي، أدرك اعتناءه المبكر بهذا المنحى المنهجي الصعب.
والواقع أن مشروعه الفكري استند في العمق إلى هذا المسلك التأويلي، رغم حرصه على تبسيط أدواته النظرية، واستخدام القنوات الصحفية العامة لنشره بين الناس.
إن الفكرة المحورية التي انطلق منها حسن حنفي هي أن تجديد التراث لا يمكن أن يتحقق بمنطق الانفصال عنه، سواء بمعنى القطيعة الإبستمولوجية (محمد عابد الجابري) أو بمعنى التجاوز التاريخي (طيب تزيني وحسين مروة)، وإنما يتحقق من خلال إعادة بنائه في الوعي الجماعي.
لقد ظل حنفي في هذا التوجه وفياً لدرس سبينوزا الذي صاغ مشروعه الحداثي بلغة ميتافيزيقية كلاسيكية رغم سمته التنويرية الراديكالية، كما كان وفياً للمناهج التأويلية المعاصرة في رفضها لفكرة تمديد الموضوعية العقلانية إلى المباحث الإنسانية التي تتحدد أساساً حسب معايير الاعتقاد والقناعة والتقليد. ولهذا الغرض وضع منهجه الثلاثي الذي طبّقه لاحقاً في مشروعه الكثيف: بناء الموقف من التراث، وتحديد العلاقة بالآخر (ويعني هنا أساساً الفكر الغربي)، ومعالجة إشكالات الواقع العملية.
ولا شك أن إسهام حسن حنفي الكبير في الفكر العربي المعاصر يكمن في الجبهة الأولى، أي ما دعاه بإعادة بناء علوم التراث والنص، سواء تعلق الأمر بعلم الكلام وأصول الدين (من العقيدة إلى الثورة: خمسة مجلدات) أو بالفلسفة (من النقل إلى الإبداع: ثلاثة مجلدات) أو أصول الفقه (من النص إلى الواقع: مجلدان)، بالإضافة إلى أعمال مشابهة في علوم التصوف والسيرة والتفسير.
أما الجبهة الثانية فقد استأثرت بالعديد من أعماله الأكاديمية، وقد حاول تنزيلها في علم جديد وضع مقدماته أطلق عليه «علم الاستغراب» كرد على مباحث الاستشراق الغربي، وقد أراد فيه تحجيم الغرب ووضعه في سياقه النظري والتاريخي المحدود، مستلهماً أطروحة هوسرل في «أزمة الوعي الأوروبي». إلا أن هذا الكتاب تعرض لنقد جذري قد يكون هو سبب إحجام حنفي عن الاستمرار في تطوير هذا العلم الذي حاول تأسيسه.
في الجبهة الثالثة، كتب حسن حنفي كثيراً في موضوعات وقضايا الساعة، وحاور مطولاً كل أقرانه من المفكرين والفلاسفة العرب، واشتهر في هذا الباب حواره الطريف مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي نشر في كتاب جامع بعنوان «حوار المشرق والمغرب».
في سنة 1994 استضافني حنفي في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة لإلقاء محاضرة حول الاتجاهات الجديدة في الفلسفة الفرنسية، وقد قال لي أوانها أنه يطلب من الله أن يمد في عمره حتى يصل الثمانين لأنه يحتاج لهذه السنين من أجل إكمال مشروعه الفكري. وعندما قابلتُه قبل ثلاث سنوات في أبوظبي، وكان شديد الوهن والمرض، قال لي إنه الآن مستعد للموت بعد أن استكمل المحطات الكبرى في مخططه الذي أعلن عنه في كتابه الافتتاحي «التراث والتجديد»، وكان أوانها قد فرغ لتوه من كتابة مذكراته التي هي آخر إنتاجه.
رحم الله حسن حنفي، كان نسيجاً وحده في سعة ثقافته وعمق انتمائه وصدق انفتاحه الفكري وغزارة إنتاجه العلمي.
أكاديمي موريتاني