النموذج الغربي للسيرة
كُتب «على هامش السيرة» لعميد الأدب العربي طه حسين كنوع أدبي حديث في مقابل الشكل الأدبي القديم أسوةً بما تم في الأدب الغربي. فقد قرأ الناس هذا الأدب، في لغته الأصلية أو مترجماً، واستمتعوا به وتذوقوه. فقد وجدوا في الأدب الغربي الجديد متعةً لم يجدوها في الأدب العربي القديم. فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوّقه أشد عسراً. لا يستوعب الأسانيد المطولة والروايات المتضاربة والاستطراد في الأخبار. كما لا يفهم اللغة القديمة ولا مفرداتها إلا بقواميس مطولة ومسهبة لا تساعده في شيء.
والأدب يتغير من عصر إلى عصر في الشكل والمضمون، والقارئ أيضاً يتغير من القارئ القديم إلى القارئ الحديث. فقد تغير الإطار الحضاري ومستوى التعليم. كما تغيرت الأذواق والمقاييس الفنية، الأدبية والجمالية.
وإذا تم هذا التغير في الأدب الغربي، فلماذا لا يتم في الأدب العربي؟ لماذا يقرأ العربي الحديث الأدب العربي القديم فلا يكاد يشعر بشيء نظراً لطول المسافة بين المقروء والقارئ؟ الأدب يخضع لقانون التغير والنماء، وإلا تحوَّل إلى أدب جدب لا حياة فيه ولا خصوبة. الأدب هو الذي يخاطب القارئ، ويؤثّر في وجدانه، ويرضي العقلَ والشعور، ويوحي إلى النفس ما ليس فيها، ويلهم ما بين السطور، ويزيد من نمو الإنسان وتطوره. الأدب صورة في القلب، وقلب في الصورة، إيحاء متبادل بين المقروء والقارئ.
وخلود الإلياذة لا يأتي فقط من اللذة التي تحدث عند قراءتها وإثارة الإعجاب بها في كل زمان ومكان بل أيضاً قدرتها على إلهام العديد من الشعراء والكتاب والإيحاء لهم بإنشاء جديد في غاية البيان. وكان ايسكولوس أبو التراجيديا اليونانية يقول إنه يلتقط ما يسقط من مائدة هوميروس. وهو ما يردده عديد من الشعراء والقصاصين حتى الآن. وكتب جيرودو قصة تمثيلية بعنوان «انفيتريون رقم 37» وموضوعها مولد هرقل كما صورها سوفوكل في القرن الخامس قبل المسيح.
ومازال الشعراء والكتاب يصورون هذا الموضوع مستلهمين الأسطورة الأولى. كما نسج على منوالها الشاعر اللاتيني «بلوت»، والشاعر الفرنسي «موليير». لم يتردد المحدَثون في إعادة تصوير الموضوعات القديمة، بل أعجبوا بما صاغه الشعراء المحدثون لإعادة التعبير عن أساطير القدماء. السيرة إذن جزء من الأدب الحي، أي الأدب القادر على البقاء والدخول في تحديات العصر والتفاعل مع غوائل الزمان. يبقى في النفس ولا ينتهي، ويصبح جزءاً منها وليس منفصلاً عنها.
هو الأدب الخالد الذي يتجاوز كل العصور كما هو الحال في روائع الآداب العالمية وليس الأدب المحلي المرتبط بزمانه ومكانه والذي لا يبقى منه في النفس شيء. وفي الأدب العربي القديم القوة الكامنة للتجديد والتطوير بحيث يتذوقه المحدثون. به قدرة على الإيحاء والإلهام
لم تكتب أحاديث العرب في الجاهلية مرة واحدة، ولم تأخذ صورةً بعينها، بل نقلها الرواة في أشكال متعددة من القص. وألفها مؤلفون عديدون.. فقد ألهمت العديد من الشعراء والكتاب في كل العالم الإسلامي وصوروها بصور مختلفة تتفاوت فيما بينها من حيث القوة والضعف ومستويات الجمال. بل تحول هذا الإلهام من الأدب الفصيح إلى الأدب الشعبي الذي يقص على المستمعين غوائل الزمان، وأيام المجد التليد من أجل رفع الروح المعنوية والخروج من الزمان، والصبر على المحن والشدائد. الغرض من السيرة إذن إحياء الأدب العربي القديم، وذكرى العرب الأوائل.
ليس تأليفاً ولا تصنيفاً ولا دراسة ولا حتى تفكيراً بل هو دفعة تلقائية وحركة طبيعية بعد قراءة السيرة القديمة وامتلاء النفس بها. ففاضت، وأحلت عقدة اللسان، وبدأ إملاء الفصول. ليس به صنعة التأليف، ولا محاولة لإجادة الإخراج، وحسن التبويب، ولا تجنب التقصير، بل هو صورة صادقة لما يعتلج في النفس من مشاعر أثناء قراءة السير القديمة التي لا يقوى على قراءتها المحدثون.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة