صفقة الغواصات.. ودلالات الغضب الفرنسي
الفرنسيون غاضبون، وغضبهم شيء يمكن تفهمه. فقد اكتشفوا الأسبوع الماضي أن بعضاً من أقرب حلفائهم الرئيسيين – الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا -- تفاوضوا سرًا حول اتفاق دفاع جديد يزوّد أستراليا بغواصات أميركية التصميم تشتغل بالطاقة النووية بدلاً من نماذج فرنسية تشتغل بالديزل كان الأستراليون قد وافقوا على اقتنائها في 2016. تفاصيل هذا الاتفاق قد تبدو معقدة، ولكن التفاصيل ليست هي التي أثارت حفيظة الحكومة الفرنسية. ذلك أن الفرنسيين خُدعوا فعلياً على مدى أشهر متواصلة، من قبل من يسمون الأصدقاء الذين يزعمون أنهم أقدم حلفائهم وأوثقهم.
ولهذا، فإن الغضب في باريس محسوس – ومبرَّر. رد الفعل الفرنسي كان أكثر درامية من أي خلاف دبلوماسي خلال السنوات والعقود الأخيرة، بما في ذلك توتر «بطاطس الحرية» المحرج في الولايات المتحدة على خلفية رفض فرنسا دعم غزو جورج دبليو. بوش للعراق في 2003. إذ عمد الرئيس إيمانويل ماكرون إلى سحب سفيري فرنسا إلى أستراليا والولايات المتحدة، بينما رفض سحبَ السفير الفرنسي إلى بريطانيا تجاهلاً وازدراء. ومن جانبه، وصف وزيرُ الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان اتفاق الغواصات بأنه «طعنة في الظهر».
وبعد أسبوع من الاستياء الشديد، يبدو أن المياه هدأت الآن. فقد تحدث بايدن مع ماكرون هاتفيا يوم الأربعاء، و«اتفقا على أن الوضع كان سيستفيد من مشاورات مفتوحة بين الحلفاء حول المسائل التي تكتسي أهمية استراتيجية بالنسبة لفرنسا وشركائنا الأوروبيين»، وفق بيان صادر عن قصر الإيليزيه، مقر الرئاسة الفرنسية، بشأن تفاصيل المكالمة الهاتفية. وقال بايدن إنه يدعم «دفاعاً أوروبياً أكثر قوة وقدرة»، بينما وافق ماكرون على إعادة سفيره فيليب إيتيان إلى واشنطن الأسبوع المقبل. أما في وسائل الإعلام الفرنسي، فقد كان هناك كثير من الجدل بشأن التفكيروالتأمل الذي ينبغي أن يحدث الآن. وصدرت عن العديد من المعلّقين الفرنسيين دعواتٌ متجددة ل«استقلالية استراتيجية»، وهما الكلمتان المتداولتان بكثرة في عهد ماكرون، واللتان تعنيان أنه ينبغي على فرنسا – ولأوروبا –السعي وراء أهدافها الخاصة بدون الاعتماد على الولايات المتحدة. ولا شك أن الإشارة في البيان المتعلق بمكالمة بايدن وماكرون إلى أن الولايات المتحدة ملتزمة بتعزيز نسخة من هذه الأجندة لن يعمل إلا على تأجيج هذا النقاش.
ومما لا شك فيه أنه ينبغي أن يشكّل التوترُ الدبلوماسي لحظة تفكير وتأمل في الذات بالنسبة لكل من إدارة بايدن وفرنسا على حد سواء. فبغض النظر عن حجم الإنجاز الذي قد يمثله اتفاق «أوكس» – وهو إنجاز كبير جداً بالفعل – إلا أن الواقع هو أن الاتفاق يبدو أشبه بعمل هواة، وذلك بعيد أسابيع من الانسحاب الفوضوي للإدارة الحالية من أفغانستان. ولهذا، ينبغي على فريق بايدن تقييم ما إن كان استعداء حليفٍ تاريخي وإذلاله أمام الجميع ثمناً ضرورياً حقا ينبغي دفعه. وأياً تكن الخلاصات التي سيخلص إليها، فإنه سيتعين عليه بذل جهد كبير من أجل إصلاح ما تضرر من العلاقات مع فرنسا، التي بدأ غضبها يتردد عبر أوروبا. والجدير بالذكر هنا أن بايدن وماكرون من المرتقب أن يلتقيا في أوروبا الأسبوع المقبل، وهو ما سيشكّل لحظة ينبغي متابعتها. ولكن تحالف «أوكس» ينبغي أن يؤدي أيضا إلى تفكير وتأمل في باريس، في وقت يبدو فيه على نحو متزايد أنه من المستبعد أن يحقق الغضب الأعمى أي هدف عدا أن يُظهر للعالم أن فرنسا غاضبة حقاً . كما يتساءل المرء بشأن ما الذي سيحققه ذلك عدا إظهار أن ماكرون وحلفاءه قادرون على الوقوف في وجه «الذئب الشرير الكبير بيلي بوب بايدن». واللافت أن قلة قليلة في باريس يبدو أنها تساءلت بشأن الأسباب التي دفعت أستراليا للجوء إلى الولايات المتحدة وبريطانيا من أجل شراكة دفاعية جديدة تستبعد فرنسا تماما من الصورة. وربما يكون هذا النوع من التفكير مبكراً جداً، غير أنه فيما يتعلق بالصين من الواضح أن أستراليا لا تنظر إلى فرنسا أو الاتحاد الأوروبي كبديلين ذي مصداقية للضمانة الأمنية الأميركية. لماذا؟ لأنه وسط غضبهم – المشروع تماماً، مرة أخرى -- أكد عدة مسؤولين فرنسيين، حاليين وسابقين، أنهم لا ينظرون إلى الصين كعدو وإنما كخصم ومنافس.
ومثلما كتب فيليب ستيفانز في صحيفة «ذا فاينانشل تايمز»، ينبغي على فرنسا وأوروبا «أن تعترفا بأنه عندما يكون الاختيار بين العجرفة الأميركية والهيمنة الصينية، فهناك جانب واحد فقط يجب اختياره». ومنذ أن علمت باتفاق «أوكس»، تتحدث فرنسا كما لو كانت صوتَ أوروبا، ويبدو الاتحاد الأوروبي أكثر استعداداً من المعتاد للانسياق مع هذا الوهم. وفي الأثناء، قالت أورسولا فون دير لايين، رئيسة المفوضية الأوروبية، للصحافية كريستيان أمنبور من قناة «سي إن إن» الأميركية: «لقد عوملت إحدى دولنا الأعضاء بطريقة غير مقبولة.
ونريد أن نعرف ما حدث ولماذا. فلا بد من توضيح ذلك قبل مواصلة العلاقات العادية». وقد صدرت تصريحات مماثلة عن مسؤولين أوروبيين آخرين، غير أنه من غير الواضح نوع الأعمال التي قد تتلو ذلك، إن وُجدت. وعلى سبيل المثال، فإن خطاب حملة الانتخابات الألمانية مؤخراً لا يشير إلى أن أغنى دولة في أوروبا مهتمة بتحمل مهمات أمنية قارية إضافية. كما يبدو أنه من المستبعد أن تسمح أوروبا لخلاف ثنائي بأن يهيمن على أجندتها لفترة طويلة. وقد يكون ذلك رسالة أكثر إيلاماً من أن تستقبلها باريس، ثم إنه إذا كان لودريان قد حثّ الأوروبيين على «التفكير مليا» خلال الكلمة التي ألقاها أمام قمة الأمم المتحدة في نيويورك، فما الذي سيحدث إن فعلوا ثم لم يتبعوا فرنسا؟
*صحفي حائز شهادة الدكتوراه في التاريخ الفرنسي من جامعة أوكسفورد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»