إنّ صفقات التسليح العسكريّ بكل أنواعها وأحجامها، ليست مجرد احتياج لتعزيزِ ترسانةِ الأمنِ الوطنيّ والقوميّ للأمم، وسد نقاط الضعفِ العسكرية للمجال الجويّ، البريّ، البحريّ أو الفضائيّ، ولا حتى للإجابة عن التحدياتِ الوطنية لتأمينِ الدول أو إرسال رسالة للمنافسين الإستراتيجيين والتعامل الاستباقي مع المخاطر والتهديدات الوطنية، وتحويلها لأدواتِ قوةٍ وسلاح ردع عكسي، إنّ تلك الصفقات في واقعِ الأمر ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالتحالفاتِ والتكتلات الإستراتيجية القائمة أو المخطط لها، أو تلك التي من المتوقع أن تحدث بين الأمم بجانب البعد الاقتصادي، وما يخدم ملفات الأنظمة والأحزاب السياسية، أيضاً هي منبثقة من عقائدِ الأمنِ الوطنيّ للدول، وتوجهات غاياتها الكبرى، ومدراس الفكر في العلاقات الدولية التي تتبناها القيادات الحاكمة، وهذا ما يفسر ما حدث من حيث الإلغاء المفاجئ من قِبَل الجانبِ الأستراليّ لواحدة من أكبر صفقات التسليح في التاريخ الحديث بين الدول، وتمزيق عقد بقيمة 90 مليار دولار مع شركة بناء السفن الفرنسية نوفال «Naval Group» وتحويل الصفقة للجانب الأميركي.
هذه الخطوة الدراماتيكية، هل يوجَد ما يبررها؟، كالتحول مثلاً إلى التكنولوجيا النووية كمتطلب رئيسي في ضوء الظروف الاستراتيجية المتغيرة في المنطقة وفق الرؤية الأسترالية والأميركية.
إنّ أميركا لم تعطِ حليفتها فرنسا غير ساعات قبل أن تعلنَ عن الصفقة، واستبعاد فرنسا تماماً من الاستفادة منها، والذي اعتبرته باريس سلوكاً استفزازياً وطعنة في ظهرها، مما جعلها تستدعي سفراءها في تلك الدول، وتوجيه رسائل تنمُّ عن شدةِ الاستياء لأطرافِ العقد الجديد.
إنّ إنهاء العقد سيكلف أستراليا قرابة 400 مليون دولار، وهو ما سوف يثيرُ حفيظةَ الشعبِ الأستراليّ، بكونهم هم دافعي الضرائب التي ستُستقطع لتسديد هذا المبلغ، ولكن الحكومة الأسترالية تبررُ إلى أن الصفقةَ ستتجاوز الغواصات، وستوفر فرصة تبادل المعرفة حول التكنولوجيا العسكرية المتقدمة.
الذي يستدعي التساؤل هنا، لماذا أرادت أستراليا الخروج من صفقة الغواصات الفرنسية؟ وهل لتلاشي الوعود بتوفير آلاف الوظائف للأستراليين دور في ذلك؟ أم هي أسباب فنية، والرغبة في الحصول على تقنيات أكثر تطوراً؟ وماذا عن القرارِ الأميركي الذي استبعد الجانب الفرنسي من الاتفاق الذي وقعته مع أستراليا لشراء غواصات أميركية؟ وهل يُظهر ذلك نقصاً في الاتساقِ والتنسيق والتعاون في وقت يواجه فيه الحليفان تحديات مشتركة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتصريح الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في وقت سابق عن إقامة شراكة أمنية لمنطقة المحيطين؟ وهل يعرز ذلك حاجة أوروبا للوصول إلى الحكم الذاتي الاستراتيجي ووسائل أكثر مصداقية للدفاع عن مصالحها في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك محور الهند-المحيط الهادئ، والتوجه نحو الصين وروسيا لإحداث التوازن اللازم؟
فرنسا التي اقتربت من رئاسة الاتحاد الأوروبي تقود استراتيجية معدلة لمنطقة المحيطين، حيث وصف المسؤولون الفرنسيون استبعاد فرنسا -العضو الفاعل في «الناتو»- من الشراكة العسكرية البريطانية الأسترالية الأميركية الجديدة، بأنها لحظة من شأنها تعميق الشقاق الآخذ في الاتساع بالفعل بين الحلفاء القدامى.
ماذا تعني تلك الصفقة للصين؟ وكيف ستتعامل مع أستراليا بعد تملكها التكنولوجيا الأميركية لبناء أسطول من غواصات تعمل بالطاقة النووية أكثر تخفياً، ولها مدى أطول وأعمق وأكثر تعقيداً من الغواصات التقليدية؟ الذي لا يخفى على أحد، أن تلك الصفقة موجهة للحد من النفوذ الاقتصادي والعسكري للصين في منطقة المحيطين، وخاصةً أن احتواء بكين يمثل أولوية عليا في السياسة الخارجية لإدارة بايدن، وهل يعني ذلك أنها بداية تسخير الصادرات النووية كأدوات للعبة الجيوسياسية والعودة لعقلية الحرب الباردة؟
إنّ الأمر ممكن أن ينتهي بنتائج عكسية لاهتمام بايدن المعلن بتجنيد حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، للوقوف متحدين في مواجهة الصين والتأهب الروسي والطموح الهندي.
كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.