بعد عشرة أيام من تفجيرات نيويورك وواشنطن الإرهابية الدامية (11 سبتمبر 2001)، كنت ونخبة من الصحفيين العرب في واشنطن العاصمة، لا نزال مثل غيرنا نعيش وطأة الصدمة، ونحاول البحث عن أجوبة في متاهة ضخمة من الأسئلة، وكان الدخان لا يزال يتصاعد من أنقاض مباني البرجين التوأمين في نيويورك، والبنتاغون في واشنطن.
وقتها، كنا بمعية الدبلوماسي السابق في الشرق الأوسط جيري فريمان يحدثنا بحكمة وهدوء في مكتبه، ومن بين كل حديثه استرعت انتباهي عبارة قالها، ودونتها فوراً وفي كل ذكرى 11 سبتمبر استرجعها في ذاكرتي، حيث قال: «في صباح الحادي عشر من سبتمبر، استيقظ الأميركيون ليجدوا أن المحيط الأطلسي قد اختفى مرة واحدة».
حددت تلك العبارة الموجزة والمكثفة حينها اتجاهاً نحو أجوبة محتملة لأسئلة مطروحة كثيرة، من أهمها كان السؤال الذي طرحه الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش: «لماذا يكرهوننا؟»، أو طروحاته في ما بعد حول «إما معنا أو ضدنا».
كل ما حدث بعد ذلك، كان زحزحة قارية متسارعة بين عالمين، قد اختفى بينهما المحيط، فلم يكن الأميركيون وحدهم من يكتشفون زوال البحر العازل، بل اكتشف العالم العربي أيضاً، مع كل العالم القديم، أن البحار كلها لم تعد عوازل طبيعية، وكذلك الجبال والكهوف.
لكن في الطرف الآخر من الأطلسي الذي اختفى فجأة، أيضاً كانت هناك ردود فعل أكثر غرابة، ولو تجاوزنا تلك الاحتفالات «المبتهجة» بالعمل الإرهابي في سبتمبر الدامي، أو قفزنا باستغفال فوق نظريات المؤامرة العجيبة و«الفانتازية»، والتي استهدفت تجميع كل اللامنطق في ترسيخ المؤامرة، فإن التساؤلات هناك أيضا تكشف جهلاً بالعالم الجديد الذي اختفى الأطلسي بيننا وبينه.
أحد من يكتبون في الصحافة مثلاً، وفي حديث في مقهى في العاصمة الأردنية عمّان، فتح نظرية المؤامرة «ما غيرها» عن أحداث سبتمبر وضمن أسئلته التي وجهها لي، أنا القادم عام 2005 حديثاً من بلاد العم سام، كان سؤاله عن الأموال الأميركية الضخمة التي تنفقها المؤسسات الأميركية لتفكيك الأسرة وترويج الانحلال، كما يحدث في أميركا من انحلال منتشر تشجعه الحكومة هناك!
هكذا يرى «كاتب نخبوي» عالم ما وراء المحيط رغم اختفاء هذا المحيط، جاهلاً أن الحزب «الجمهوري» مثلاً، هو حزب محافظ أحد أهم خلافاته مع الحزب «الديموقراطي»، أنه يدعم برامج تعزيز الأسرة والزواج وضد الإجهاض وموقفه من بعض القضايا الاجتماعية ليس منفتحاً كثيراً مثل الحزب «الديموقراطي»!
بحثاً عن مفاتيح فهم العالم الجديد في الولايات المتحدة الأميركية، كتب الراحل الكبير محمد حسنين هيكل سلسلة من مقالات ما بعد سبتمبر الدامي، وكان تعريفه للولايات المتحدة في أحد أهم مقالاته أن أميركا هي كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ.
ما ذهب إليه هيكل، عميق على بساطته، وهو يتطلب فهماً لا انتقاداً أو مواجهة رافضة لهذا الواقع. فتلك الميزة التي وصف بها الولايات المتحدة هي نقطة قوتها الذاتية التي صنعتها في الداخل، وهي أيضاً نقطة ضعفها التي جعلتها «قبل سبتمبر وبعده» تجهل الخارج عن محيطها «أو محيطيها». فهل فعلاً اختفى المحيط؟
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا