يتحول عدم اليقين في ظل تداعيات الثورة الصناعية الرابعة إلى مصدر مهم لإدراك حقائق الأشياء، وسواء كانت الفلسفة تعني المبادئ والأفكار الأساسية للعلوم والمؤسسات، أم كانت منظومة معرفية لإدراك حقائق الأشياء، والإحاطة بمعنى الحياة والوجود والموت، فإنها تأخذ أبعاداً وتحولات جديدة في عصر الشبكية. إذ تسود العالم حالة عدم يقين، ليس فقط بسبب الانتقال والتحولات، ولكن أيضاً لأن العلوم والتقنية الجديدة في مضاهاتها للإنسان تكون غير يقينية، إذ تصمم البرامج والروبوتات غير مكتملة، لكنها تعلّم نفسها وتكتشف أخطاءها. وهكذا يتحول عدم اليقين إلى مورد وفلسفة حياة، وحتى في السياسة والاجتماع يكون عدم اليقين مؤسساً للأنظمة والعلاقات والعيش معاً، باعتبار أن أحداً لا يعرف ولا يملك الصواب، وليس لدى الناس سوى أن يتقبلوا بعضهم بعضاً وينشئوا بثقافة التنوع والاختلاف اتجاهات جديدة في السياسة والحياة والفكر.
وفي ظل عدم اليقين وغياب الحقيقة وتغيرها، ستصعد بالتأكيد الاتجاهات الفلسفية التي تنظر إلى الحقيقة من هذا الجانب، وتنسحب نظريات المعرفة التامة، ولا يعود فقط نقص المعرفة هو سبب غياب المعرفة، بل يكون التغير هو الحقيقة الأساسية، ويعبر إدراكنا للحقيقة عن اللحظة التي جرى فيها هذا الإدراك، ويمتد هذا التغير إلى السلع والمنتجات والأبنية، إذ يجب أن تكون قابلة للتعديل والمراجعة. بل ويجري أيضاً تعليم الحواسيب لتعمل في ظل حالة من عدم اليقين واحتمالات الخطأ والصواب.
إن الإنسان رغم أنه كائن مفكر، تحركه أيضاً دوافع روحية ونفسية وأهواء ومصالح غير عقلانية، ولا يمكن تنظيم حياته وأفكاره واتجاهاته وفق قواعد علمية وعقلانية منضبطة، ولكن يجب إدراك هذا العالم المشهود والحقائق المحيطة به، أخذاً في الاعتبار لكل ما يكوّن الإنسان ويحركه ويؤثر فيه. وهكذا فإن إدراك القيم الأساسية المنشئة للفلسفة، وهي الحق (تمييز الصواب من الخطأ) والخير (تمييز الضار من النافع) والجمال (تمييز القبيح من الحسن)، تمضي باتجاه متعدد وغير يقيني. وبالطبع فهذا ليس جديداً في الحياة الإنسانية وتاريخ العلوم والأفكار، لكن الجديد (ربما) هو أن عدم اليقين ينشئ منظومةً معرفيةً وحياتيةً قائمةً على عدم اليقين باعتباره فضيلةً وأساساً للموارد والحقيقة نفسها، وليس ضريبة لا مفر منها!
كيف تحوّل الإنسان إلى تمجيد السلام بدلاً من الحرب والقتل؟ وكيف صارت البيئة أيديولوجيا سياسية، بل وروحية أيضاً؟ وكيف صار الرق جريمةً؟ وبطبيعة الحال يجب أن نتساءل حول الوجهة الفلسفية للحضارات والمجتمعات: ما الذي سيتحول إلى فضائل مما كان مرفوضاً؟ وماذا سيتحول إلى مرفوض مما كان متقبلاً أو مرغوباً؟
إن التفكير، ويتبعه الذكاء والإبداع والخيال، ليس سوى حيلة يواجه بها الإنسان عجزه وقصوره عن إدراك الحقائق أو حلّ المشكلات. وبطبيعة الحال فإن الحاجة تقلّ إلى التفكير عندما لا تكون لدينا مشكلة، فالفضيلة والتقدم في إدراك المشكلات، لأنها لا تكون «ليست موجودة» إلا في غياب الوعي بها أو العجز عن الإدراك، وفي ذلك فإننا في أزمة وجودية ملتبسة، إذ يضعنا إدراك المشكلة أمام أزمة وتحديات، كما أن عدم إدراك المشكلة بما يعني عملياً عدم وجودها ومن ثم غياب الأزمة، لكنه إنجاز يشبه المصيبة!
الشباب الذين يتعلمون اليوم من الشبكة مستقلين عن المدارس والجامعات، والذين يبيعون ويشترون من خلال الشبكة، ويتبادلون الآراء والمعارف والأفكار ويتحاورون ويتجادلون، بعيداً عن الصحف والإذاعات والتلفزيونات، وينخرطون في عمليات تفاعل ونقاش وإنتاج واستماع وقراءة وتعلم وتعليم وتصميم وبيع وتسويق ولعب وحوار، مستقلة ومختلفة عما يجري في عالم الواقع أو في مؤسسات وشبكات الجيل السابق.. هم في واقع الحال ينشئون عالماً جديداً مختلفاً، ويشكلون أفكارهم وعلاقاتهم المختلفة والمستقلة عما تشكل في عمليات مركزية وتنظيمية للمجتمعات والأسر والمدارس.